بدأت الدراجات النارية بالتحرك في القرى الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" انطلاقا من "حاجز العون" نحو نهر الساجور، بعد ثلاث ساعات من انتظار رسالة المهرّب الذي يعمل ضمن مناطق نفوذ المعارضة السورية، لاستلام عائلة كانت قد تعاقدت مع شبكة تهريب لزيارة ذويهم في مدينة الباب بريف حلب الشمالي.
أما بالنسبة لعائلة عماد، فلم يخفف جمال الطبيعة وأشجار الحور الممتدة على ضفاف نهر الساجور من مشقة الرحلة التي استنزفت طاقتهم، فضلا عن نحو 1000 دولار دفعوها للمهربين، إذ لم تكن المشقة في ساعات الانتظار الطويلة فقط، بل في نصف ساعة تلتها، اضطر فيها رب العائلة وزوجته لحمل الأمتعة والأطفال وعبور نهر الساجور الذي لا يزيد عمقه على 30 سم ثم السير في الأراضي الزراعية، للوصول إلى الطريق العام المحاذي لناحية الغندورة، حيث السيارة بانتظارهم.
من الغندورة إلى الباب
اعتاد قاطنو ريف حلب الشمالي الخاضع لنفوذ المعارضة السورية على كلمة "إكرامية الحاجز، وهي مبلغ تتقاضاه الحواجز العسكرية من كل سيارة أو دراجة نارية مدنية، أو ركاب السرافيس الذين ينتقلون بين المناطق لإنجاز أعمال أو لمراجعة الأطباء والمشافي.
"منذ دخولنا إلى الغندورة وحتى خروجنا منها صادفتنا ثلاثة حواجز عسكرية، كانوا يعرفون السيارة ولا يوقفونها، باستثناء حاجز واحد أوقف السيارة وطلب من السائق تصفية الحساب السابق" بهذه الكلمات يحاول عماد إخبار تلفزيون سوريا أنّ شبكة التهريب تنتمي أو تتعامل مع بعض فصائل المعارضة ومع حاجز العون الذي يتبع لقسد على حد سواء.
انتهت مهمة المهرّب بعد هذه الحواجز الثلاثة ليلتقي عماد بشقيقه الذي كان ينتظرهم بسيارته على مقربة من حاجز الغندورة، إلا أنّ رحلة الشقاء لم تنته بعد.
يقول شقيق عماد إنهم اعتادوا أن توقفهم بعض الحواجز العسكرية ويطلبون "إكرامية الحاجز" وعادة ما تتراوح بين 10 و 30 ليرة أي نحو دولارين، ولكن بما أنّ عماد وعائلته لا يمتلكون هوية صادرة عن أحد المجالس المحلية، فقد أصر أحد الحواجز أن تكون "الإكرامية" 300 ليرة تركية حتى لا يتم توقيف شقيقه للتحقيق معه بشبهة الانتماء إلى قسد.
شتات واغتراب
عماد ليس حالة خاصة، وإنما يمثل الوضع العام للأسر السورية، فهي لا تعيش حالة الشتات في دول اللجوء فحسب، وإنما بين مناطق سيطرة القوى المختلفة في سوريا، إذ فرضت قيود التنقل للمدنيين ووضع حدود ومعابر بين تلك المناطق، حالة تقسيم غير معلنة على أساس جغرافي وسياسي.
هدى تمثّل ذات الحالة من الشتات الداخلي، هي تقيم في مدينة تل أبيض الخاضعة لنفوذ المعارضة مع زوجها المنشق عن إحدى تشكيلات قوات الأسد، ولها شقيقان معتقلان لدى قوات سوريا الديمقراطية في مدينة الحسكة، بتهمة الانتماء إلى المعارضة السورية، ووالداها يقيمان في ريف الحسكة ليتسنى لهما زيارة ابنيهما كلما سنحت الفرصة، في حين يقيم شقيقها الثالث في مدينة جرابلس، وأما شقيقتها فتقيم مع زوجها الذي يعمل مدرسا في دمشق.
تقول هدى ل "تلفزيون سوريا" إنّها لم تر أحدا من أهلها منذ عدّة سنوات، وأي لقاء يحتاج لأموال لا يستطيع أي أحد تحملها، فالانتقال من أي جانب إلى آخر يحتاج إلى دفع أموال لشبكات التهريب وللحواجز العسكرية، فضلا عن إجراءات معقدة تصعب على الأطفال وكبار السن.
مشكلات مجتمعية
تمزق الأسرة الواحدة كما في حالة عماد وهدى وهما أنموذجان لحالة عامة، خلّفت أنماطا وثقافات اجتماعية مختلفة ومتباينة حتى في الأسرة الواحدة، وتلك مشكلة قد تظهر عواقبها ما بعد إنتاج حل سياسي.
يقول الباحث الاجتماعي السوري صفوان موشلي لـ "تلفزيون سوريا" إنّ تخوم النفوذ السياسي التي رسمتها معارك السوريين بعيد ثورتهم على نظام الأسد أخذت أشكالا أصبحت قليلة التغير بعد مرور أحد عشر عاما على تفجر الثورة، وأصبحت تتمتع بثبات نسبي، كمنطقة شرقي الفرات وشمال غربي الفرات ومنطقة إدلب المحاطة بالطرق الدولية، بالإضافة إلى المنطقة المحمية من القوات الأميركية بجوار التنف، ومناطق نفوذ النظام وميليشياته المحلية والمستوردة.
وعلى الرغم من كون هذه الخطوط لا تتمتع بأية شرعية ألا أنها مغلقة أمام عبور السوريين المدنيين، فباستثناء تجارة المعابر على طرفي كل خط من خطوط الصدع الوطني، ما زالت تتمتع بالقدرة على عزل السوريين عن السوريين، بشكل كامل تقريبا، ولكل ما تقدم علينا أن نسرع باستكشاف البنى المتشكلة حديثا خلف خطوط العزل هذه.
ويرى أنّ السورين لم يختبروا وحدتهم الوطنية إلا عبر الخضوع لقمع أجهزة الأمن والحرمان المشترك للحقوق المدنية، لذلك فنحن لا نملك إلا وطنية متخيلة، أي غير مبنية على مصالح حقيقية تتحكم بشروط العمل وتوزع حظوظ التعليم والخدمات الصحية، فإذا كانت وطنيتنا في الأساس أقل صلابة من تحمل صدمات الحرب الأهلية أو مقاومة الدولة المافيوية، فكيف ستصمد بعد انخراط الفاعلين الاجتماعيين بنشاطات اقتصادية محلية كانتونية شديدة الضيق بعد تقطع الشبكة الاجتماعية للإنتاج الوطني بواسطة خطوط العزل،
وما يقال عن الاقتصادي يقال أيضا على الصعيد الثقافي والاجتماعي بحسب "موشلي" فيكفي أن نعرف أنّ ثلاثة مناهج تعليمية متباينة يتم تدريسها على الأقل، أي أن الطلبة السوريين يدرسون ثلاث سرديات عن تاريخ الجغرافيا نفسها، لذلك نحن أمام تشظ يتوسع كل يوم، بدءاً من التوجهات السياسية وصولا لذائقة الطعام الذي أصبح يطبخ بمواد مختلفة وتقنيات مختلفة على مدى عشر سنوات، فما هو متاح غربي تخم من تخوم التصدع الوطني مفقود شرقي ذاك التخم، أي أننا أصبحنا جاهزين لاقتراح تقسيم المنعزلات القائمة وتحويلها لكيانات سياسية منفصلة، إلا إن كان تشظينا ضارا بإحدى القوى الإقليمية المؤثرة.
حلول مرتقبة
هذه الحالة من التمزق الاجتماعي تحتاج إلى تظافر جهود كل الفاعلين مع منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية للحد من هذا الخطر، فضلا عن جهود كبيرة للحد من الإتاوات التي أصبحت مرهقة للمدنيين
يقول القيادي في حركة ثائرون أبو بكر الفاروق لـ "تلفزيون سوريا: تم استحداث قسم معني بمكافحة التهريب في المنطقة وخاصة تهريب البشر، وأي جهة تتبع لفصائل عسكرية أو غير عسكرية يتم ضبطها تعمل بمسألة الاتجار بالبشر يتم اعتقالهم مع حجز السيارة وإحالتهم للقضاء للتأكد من عدم تبعية الأشخاص القادمين معهم إلى النظام أو قسد، ثم يطلق سراحهم في حال التأكد من عدم وجود شبهات أمنية.
ويضيف أنّ مسألة الإتاوات على الحواجز تم ضبطها في المنطقة، ويتم الآن التعامل مع أي حاجز عسكري يثبت تورطه في تقاضي الإتاوات من المواطنين، ولكن هذه الأمور تتم بشكل فردي وغير علني، وأي حالة تصل إلى مكتب شكايات الشرطة العسكرية أو مكاتب شكايات الفصائل يتم التعامل معها مباشرة.
وأما فيما يخص الحالات الإنسانية وانقطاع تواصل العوائل مع بعضها البعض، فتتم الآن مفاوضات لفتح معبر إنساني بين مناطق المعارضة وقسد، للحالات المرضية أو الزيارة وغيرها، وهذا الأمر إذا نجح سيحد بشكل كبير من مسألة الاتجار بالبشر، ويضبط خطوط وشبكات التهريب التي تتاجر بالبشر.
دائما ندعو على مواقع التواصل الاجتماعي والغرب العامة على تطبيقات المراسلة للتبليغ عن حالات الرُشا والإتاوات، إلا أن بعض المدنيين يخشون من التبليغ خوفا من حالات انتقامية وهذا ما يصعّب مسألة مكافحة ضبط تلك التجاوزات.
الانتظار الصعب
عائلة عماد وعائلة ريم وآلاف العوائل في الشمال والشمال الشرقي وشرق سوريا ينتظرون لقاء أسرهم بعيداً عن تعقيدات شبكات التهريب والإتاوات، ينتظرون لقاء بعضهم البعض دون مخاطر العبور، وإن أثمرت المفاوضات التي تحدث عنها القيادي في حركة ثائرون، فإنّها الطرق لرأب الصدع الذي حل بالمجتمع السوري، فبعد 11 عاما على انطلاق الثورة السورية لابد من التفكير بجدية لإعادة الترابط المجتمعي، على الأقل لضمان وحدته منعا لأي عملية تقسيم فعلي، وحتى تتم تلك المفاوضات فإنّ العوائل المشتتة ستعيش أوقات لا يمكن وصفها إلا بالانتظار الصعب.