يا ليتَ ماءَ الفراتِ يخبرنا أين تولَّت بأهلِها السفنُ
حتى وقتٍ ليس ببعيدٍ، كنا، نحن المغتربين من أبناء ريف الفرات، نسأل أهلنا وأصدقاءنا عن الربيع، فنفرح إذا سمعنا أن المطر نزل وأن موسم الفِطْر والكمأة يبشِّر بمحصول وفير. ونحزن إذا حدَّثونا عن القحط أو عن "عَجاجَةٍ" (عاصفة غبار) هبَّت عليهم، فأحرقت الزرع وكادت تفتك بهم وبماشيتهم. منذ سنواتٍ لم تُعد هذه الأسئلة من همومنا الموسمية، فقد طوتها يدُ الزمن المُشِتِّ. فمنذ الربيع العربي، صار للربيع رائحة الدم والدمار والنزوح عن الديار والغرق في أمواج البحار، وصِرنا نرتعد من كلمة "الربيع" المشؤومة هذه. مَنْ قال إن اللغة تسلم من سطوة الجبابرة الطغاة؟
أرسل إليَّ أخي الأكبر مساء أمس (11 أيّار) صورًا للمزروعات في حوش بيتي في الريف الشرقي للرقة. أفرحتني نَضارة خُضْرَتِها، وأثارت فيَّ شجونًا ذكَّرتني بطوفان الأحزان الذي اجتاحني يوم 15 تموز 2018، وكنت حينها أتجول في حديقة غولهانِه في إسطنبول. وصلتني يومها رسالةٌ من صديق إسباني، فأحزنني محتواها حزنًا أعادني إلى الفندق، بعد أن عجزتُ عن لجم أحزاني، لأدوِّن أول فصل من كتابي "سِفْرُ الخروج إلى إسطنبول." وكنت حينها قد أتيتُ إلى إسطنبول بحثًا عن وطن بديل لي ولأسرتي في المستقبل، تحسبًا لما تحمله الأيام من مفاجآتٍ غيرِ سارَّة، مفاجآتٍ قد تتباطأ أو تتسارع على هوى من يضبط إيقاع حياتنا نحن السوريين العاملين في الدول الشقيقة.
حين وصلت إليَّ الصور من تلك الديار القريبة البعيدة، سعدتُ حين رأيتُ دوالي العنب الغضة الأوراق تمتد على كامل العريشة (ومساحتها 96 مترًا مربعًا) وأنها تبشِّر بموسمٍ وفيرٍ، وأحزنني أنه لن يكون لي فيه نصيب. وكانت معظم أشجار الفاكهة قد ماتت حين استولى غِرْبان داعش السود على بيتي عام 2016 لمدة 370 يومًا بدعوى أنني "مُرْتد" وأعمل في دولةٍ "كافرةٍ" (المملكة العربية السعودية)! كما سعدتُ برؤية شجرة البرتقال محملةً بحباتٍ كثيرةٍ أعلم أنها مُرَّة الطعم تكاد لا تؤكل. أفي هذه البرتقالات – النَّضِرةِ والمُرَّةِ في آنٍ معًا – فلسفةُ حياةٍ سوريةٌ/ سوريةٍ؟
وكعادتي حين تداهمني الأحزان، ألوذ بالشعر أقتنص منه ما يُؤنِس وحشتي وأتدفَّأ به من صقيع الذكريات الكالحة. ومن دون عناء، استدعتُ المناسبةُ من تلقاء نفسها أبياتًا من قصيدة لأخي في النزوح، الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد. ورحتُ أترنَّم معه من غير تمحيص كبير في مضمون ما قال ذاتَ يومٍ متفائلٍ:
سنرجعُ يومًا الى حَيِّنا ونَغْرَقُ في دافئاتِ المُنى
سنرجعُ مهما يمرُّ الزمانُ وتنأى المسافاتُ ما بيننا
فيا قلبُ مَهْلًا ولا ترتمِ على دربِ عودتنا مُوهَنا
وجدت أن تفاؤله بالعودة الوشيكة لا يتوافق مع رؤيتي لمستقبلنا نحن السوريين؛ فأنا على قناعةٍ بأن قضية فلسطين قد تُحَلُّ قبل أن تُحلَّ قضيتنا نحن السوريين. وهكذا أطاح تشاؤمي بتفاؤل هارون هاشم رشيد، شاعر الثورة والعودة، الذي مات في مغتربه في كندا بعد 72 عامًا على نكبة فلسطين! وجدت أن مظفَّر النواب، الطريدَ الآخر من بلاده، أقرب إلى حالي:
أُصابِحُ الليلَ مصلوبًا على أملٍ أَلّا أموتَ غريبًا ميتةَ الشَّبَحِ
ثم هربتُ من رعب المصير الذي يصَوِّره النوّاب، لائذًا ومفتونًا برائعة محمد الثبيتي (ولقبه سيِّدُ البيد)، رحمه الله. كنتُ مثلَ عصفورٍ صغيرٍ يفتنه انعكاسُ صورته على مُقلةِ أفعى مميتةٍ. ففي "تغريبة القوافل والمطر" جمالٌ مرعبٌ منقطعُ النظير، لو أنصف النقادُ لعدُّوها خيرًا من رائعة تي إس إليوت، "الأرض اليباب." فالقصيدة تصف جحيمَ أرضٍ يبابٍ بلغةٍ عبقريةٍ تُنسيكَ أهوالَ هذا الجحيم وتَشْغَلُكَ بجمالها هي:
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ مَمْزُوجَةً بِاللَّظَى
وقَلِّبْ مَواجِعَنَا فوقَ جَمْرِ الغَضَا
ثُمَّ هَاتِ الرَّبَابَةَ
هاتِ الرَّبَابةْ:
أَلاَ دِيمَةً زَرقاء تَكتَظُّ بالدِّمَا
فَتَجْلُو سَوادَ الماءِ عَنْ ساحِلِ الظَّمَا
أَلاَ قَمَرًا يَحْمَرُّ فِي غُرَّةِ الدُّجَى
ويَهْمِي على الصحراءِ غَيْثًا وأَنْجُمَا
فَنَكْسُوهُ مِن أحزاننَا البيضِ حُلَّةً
ونتلُو على أبوابِهِ سُورةَ الحِمَى
أَلا أيُّها المخبُوءُ بينَ خيامِنَا
أَدَمْتَ مِطَالَ الرملِ حتَّى تَورَّمَا
أَدَمْتَ مِطَالَ الرملِ فَاصْنَعْ لَهُ يَدًا
ومُدَّ لهُ فِي حانةِ الوقتِ مَوسِمَا
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
حتَّى يَئِنَّ عمودُ الضُّحَى
وجَدِّدْ دمَ الزَّعْفَرَانِ إذَا ما امَّحَى
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ حتَّى تَرى مَفْرِقَ الضوءِ
بين الصدورِ وبين اللِّحَى...
كم من مغتربٍ أو لاجئ أو نازح ظن أنه تجاوز مأساة البلاد، فإذا جاءه منها قبسٌ اصطلى بفيضٍ من ذكرياتٍ ظن أنه طواها النسيان.