تضخ وكالة أنباء النظام (سانا) هذه الأيام أخباراً كثيرة عن زوار يأتون إلى سوريا وتسميهم سياحاً، مُحاوِلةً الإيحاءَ للقراء وللمتابعين بأن الأحوال جيدة في البلاد! فهل ثمة من يزور سوريا حقاً وفق معايير ومعاني السياحة الفعلية؟
هنا لا داعي للحديث عن الوفود العربية المستجدة التي صارت تزور الشام بحكم التطبيع، ولا حاجة للمرور على قائمة وفود داعمي النظام من الحركات الفاشية والنازية والشيوعية الأوروبية، فهؤلاء جميعاً يأتون وفق برنامج دعوات مصمم للبروباغاندة الأسدية مستمر منذ فترة طويلة.
ولكن يمكن التوقف عند الأفلام المنشورة على موقع يوتيوب، التي صنعها رحالةٌ غربيون لتروّج وتدعو لزيارة المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد في سوريا، وقد نشروها ضمن سياق زياراتهم لأمكنة شتى هنا وهناك حول العالم.
يبحث هؤلاء عن رحلات قليلة الكلفة، تثير شهية المشاهدين، من أجل معرفة ما يجري في بقاع تبدو مجهولة بالنسبة لآخرين.
يتجاوز صُناع المحتوى من الزائرين الأجانب والعرب المعوقات المتوقعة بسهولة، إذ ثمة مكتبٌ يرتبط بأصحاب القرار، يعمل بالمشاركة مع شركات علاقات عامة، ممولة من القصر الجمهوري مباشرة
وبالتأكيد ستكون سوريا وبعد 12 سنة من الصراع منطقةً مستهدفةً للتجوال ورصد حركة الناس، وزيارة الأمكنة السياحية المعروفة. لكن هذا لن يكون مُمكناً دون أن يحوز الزائر موافقات الجهات المسيطرة على الأرض، وهي كما يعرف العاملون في مهنة الصحافة تعاني من حساسية عالية تجاه الكاميرات من أي نوع وصنف، وخاصة تلك التي يحلو لأصحابها توجيه عدساتها إلى زوايا وأمكنة من غير المستحسن -وفق عقل المسيطر- أن يراها المشاهدون.
فعلياً، يتجاوز صُناع المحتوى من الزائرين الأجانب والعرب المعوقات المتوقعة بسهولة، إذ ثمة مكتبٌ يرتبط بأصحاب القرار، يعمل بالمشاركة مع شركات علاقات عامة، ممولة من القصر الجمهوري مباشرة، ويركز على دعوة المزيد والمزيد من الزائرين ممن يمتلكون أعداداً كبيرة من المتابعين، والذين لن يقوموا خلال حضورهم بأعمال لا ترضي مُستضيفيهم، بل سيفعلون كل ما هو مُرضٍ ومُفيد، فيستمتعون في تسجيلاتهم برؤية شوارع دمشق القديمة، وبرفاهية الغرف الفندقية في البيوت الدمشقية التي تم تطويرها للاستخدام السياحي، ويُظهِرون أمام الآخرين تلذذهم بتذوق الأكل الشامي والحلبي! وحين يعبرون الطريق بين "الشام" وحلب أمام مشاهد الخراب والدمار سيتحدثون عن أن حرباً بلا ملامح قد مرت على هذه الديار، وغادرت!
يُرافق هؤلاء عددٌ من المندوبين المُوفدين من وزارة إعلام النظام، تتكرر وجوههم في المحتوى المنشور ويظهرون كأدلاء يرشدون الزوار، لكنهم فعلياً يقومون بعملية ضبط المحتوى من أرضه، أي أن اليوتيوبر لن يكون مُضطراً للتفكير بعد عودته بما يمكن نشره من غيره، بل سيجد أنه لا يملك سواه، فيظهر كل مشهد وكل لقطة في مكانهما المرسوم لهما بدقة فائقة!
آلية العمل هذه، كانت من التدابير المعتادة في عمل وزارات إعلام الدول التي تتحفظ على إظهار ما يجري في بلادها، لكنها في سوريا، وبعد عام 2011 ستتحول إلى عمل أمني راسخ، إذ من غير المسموح لأحد أن يُصور في الشارع دون أن يمتلك الموافقة الأمنية، وإذا فعل هذا مواطن سوري، فسيلقى القبض عليه فوراً! ولن يُفرج عنه إلا بعد التأكد من أنه لا يصور لصالح قنوات معادية، وكل القنوات في العُرف الأسدي هي كذلك، طالما أن مموليها أو الدول التي تتبع لها ليست في محور الممانعة أو داعمة للنظام!
تكاثفت زيارات صُناع المحتوى في السنوات الثلاث الماضية، ولا سيما بعد أن تمت تصفية بؤر المعارضة المسلحة في الريف الدمشقي، وبات من الممكن السفر بلا أخطار بين المدن الرئيسة؛ من درعا جنوباً إلى دمشق وحمص وحماة وحلب شمالاً، ولكن بقيت مدينة تدمر الأثرية التي دُمرت بعض معالمها الشهيرة كقوس النصر في شارعها الرئيسي ومعبد بل على يد تنظيم الدولة داعش، شبه متحفظ عليها، إذ لا يبدو أنها مشمولة في الخريطة الترويجية المتاحة حالياً، ومثلها ستغيب المصايف المعروفة كمضايا وبلودان والزبداني التي صارت أنقاضاً، وتسيطر عليها ميليشيا حزب الله اللبناني، حليفة الأسد وشريكته في صنع الدمار والخراب!
ومع التركيز على زيارة مكانين فقط هما دمشق وحلب، يُدرك العارفون بأن الفضاء السوري لا يعاني من التضاؤل فحسب بل صار مُفصّلاً على مقاس سيطرة النظام وميليشياته، وبالتالي فإن أي خروج عن هذا المسار يعني الذهاب صوب احتمالات غير مرحب بها!
وفق هذا، لن يكون هناك إمكانية لقيام صناعة سياحية حقيقية، بل يمكن فقط تنفيذ زيارات آمنة، لا ترقى للمستوى المطلوب وفق المعايير الدولية، وكما تأمنت لدى النظام بضعة وفود رسمية عربية داعمة له، عقدت مؤتمراتها في فنادق العاصمة، وغادرت من دون أي مشكلات، يمكن لآلاف البشر أن يأتوا ويقيموا لفترة ثم يرحلون، مثلهم كمثل السوريين الموالين أو أولئك المجنسين بجنسيات أخرى ممن لم ينقطعوا عن زيارة بلدهم طالما بقيت ملفاتهم الأمنية نظيفة.
الباحثون عن إنجازات تبهج "القيادة" يعتقدون أنهم يستطيعون بإمكاناتهم المتواضعة استعادة السياح الخليجيين، الذين لم تعد تغريهم البلاد العربية الضعيفة في تقديم الخدمات السياحية، ولن يذهبوا إلى بلاد ما زالت خارج التصنيف في هذا المجال؟!
غير أن القائمين على مؤسسات النظام، وبعد أن تقزمت الحياة في رؤوسهم لتصبح من المقاسات المتواضعة، يظنون أنهم يستطيعون وبالتوازي مع موجة التطبيع العربية مع الأسد المساهمة في الجهد الدعائي، والإيحاء بأن الأمور عادت إلى طبيعتها في البلاد المُدمرة والمُقسّمة التي طفش ثلث سكانها إلى بلدان اللجوء، ويأمل من بقي فيها بأن يغادروا جحيمها.
الباحثون عن إنجازات تبهج "القيادة" يعتقدون أنهم يستطيعون بإمكاناتهم المتواضعة استعادة السياح الخليجيين، الذين لم تعد تغريهم البلاد العربية الضعيفة في تقديم الخدمات السياحية، ولن يذهبوا إلى بلاد ما زالت خارج التصنيف في هذا المجال؟!
وربما سيكون من المضحك أن نتوقف عند تصريح لأحد مسؤولي وزارة السياحة أدلى به في سياق المشاركة في سوق السفر العربي الذي أقيم في دبي قبل فترة وجيزة، قال فيه بأن سوريا "استقبلت في عام 2022 مليوناً ونصف مليون زائر، ثلثهم من السياح، وإن نحو 10 في المئة من هؤلاء السياح من أوروبا الغربية"، ولعل ذروة التصريح تكمن في قوله بأن الحكومة السورية تهدف هذا العام إلى استقبال ثلاثة ملايين زائر.
هل يستطيع أحد إقناع هؤلاء بأن ما تسبب به طغيان الأسد الابن للبشر والشجر والحجر يعني خراباً في كل شيء؟! وأنه من دون عودة السوريين إلى بلادهم معززين مكرمين، لن تكون هناك كرامة لزائر أو ضيف أو سائح!؟