"ما أطلع منك يا حمص لو الروح تروح حبّك منحوت بدمي ما تهمني الجروح".. ليست مجرّد كلمات ردّدها أهالي مدينة حمص بأجسام نحيلة، بل هي واقع يُعبّر عن إصرارهم وتمسّكهم بحجارة مدينتهم السوداء التي صمدوا فيها تحت وطأة الحصار والنار لمدة عامين، فكان تهجيرهم منها في التاسع من أيار عام 2014 بمثابة اقتلاع القلب من الجسد.
خلال فترة الحصار حاول نظام الأسد السيطرة على مدينة حمص بشتى الوسائل مستخدماً سياسة "الأرض المحروقة" و"الجوع أو الركوع"، وفي هذا التقرير يوثّّق تلفزيون سوريا أبرز المجريات العسكرية حول سيطرة مقاتلي المعارضة على الأحياء ومحاولات النظام استعادة السيطرة، وفقاً لشهادات قياديين من المنطقة حينذاك، مؤكدين أنَّهم مجرَّد مقاومين وليسوا خبراء عسكريين، بل مدنيون دفعتهم الغيرة على الثورة السورية للتسلّح والدفاع عنها، بعد المجازر التي ارتكبها النظام بحقّهم.
المحاور قبل إطباق الحصار
كانت حمص من حيث توزّع المقاتلين في المدينة بين قطبي الحيّين (بابا عمرو والخالدية)، متمثلة بقادتها الذين يوزّعون السلاح إلى بقية الأحياء، ويقول قائد "كتائب الفاروق" في حمص سابقاً، الحاج عبيد، لـ موقع تلفزيون سوريا: إنَّ المقاتلين بدؤوا باتباع سياسة إزالة حواجز النظام من بين الأحياء، بعد سيطرتهم على حاجز المؤسسة في بابا عمرو، نهاية 2011، وكان أولها في نهاية كانون الثاني 2012 السيطرة على حاجز مستوصف باب الدريب، وفي اليوم التالي (1 شباط 2012) سيطروا على حاجز بستان الديوان، لتتوالى حواجز النظام بالسقوط تباعاً.
زهير عرابي النجار - أحد قادة الحصار في حمص سابقاً - يوضّح لـ موقع تلفزيون سوريا: أنَّ قوات النظام بدأت باقتحام الجهة الشرقية والغربية لمدينة حمص، بعد سقوط حي بابا عمرو بيد النظام في الثاني من آذار 2012، حيث كان هدف النظام "فصل الأحياء الثائرة (السنية) عن الأحياء الموالية (العلوية) بمثابة (فصل طائفي)"، وخلال شهر آذار سيطرت قوات النظام على أحياء "عشيرة، كرم الزيتون، العدوية، باب السباع، جب الجندلي، باب الدريب"، واصفاً المعارك بـ"السريعة" خلال يوم أو يومين يسقط كلّ حيّ على حدة.
ويضيف: تخلّلت المعارك مجازر طائفية ذبحاً بالسكّين في أحياء "العدوية، الرفاعي(كرم الزيتون)، شارع الستين"، حتى وصل النظام إلى حي دير بعلبة وسيطر عليه في 9 نيسان 2012، بعد أن ارتكب مجزرة بحق المدنيين.
بعدها بأسبوع سيطر على حي البياضة، ليكون شارع القاهرة هو الفاصل بين مواقع المعارضة في (الخالدية) والنظام في (البياضة)، وبذلك فصل النظام جهتين من جهات حمص ليبقى شارع الوادي الممتد من منطقة القلعة قرب حي طريق الشام إلى مستوصف حي باب الدريب كفاصل بين الطرفين حتى خروج المقاتلين من المدينة.
ويتابع القيادي السابق: النظام سيطر على جهة في حي جورة الشياح من ناحية نادي الضباط، وعلى حي القرابيص الذي قاوم المقاتلون الثائرون النظام فيه بمعدل منزل-منزل، فكانت الفترة من مطلع آذار إلى مطلع نيسان 2012، من أشرس المعارك لدرجة أنهم تركوا ضحايا دون سحبهم.
سبقتها معارك حي القصور في شباط 2012 وخلالها فُصل الحي بين النظام والمعارضة، وفي التاسع من حزيران 2012 أطبق النظام حصاره عندما أغلق شارع نزار قباني المؤدي إلى حي الغوطة، أمّا بالنسبة لخطوط الإمداد فبعد سقوط بابا عمرو انتقل خط الإمداد الأول للمعارضة إلى حي دير بعلبة، وخط الإمداد الثاني كان من حي الوعر، إلا أنَّ هذين الخطين سيطر عليهما النظام لاحقاً.
تأتي أهمية الجبهات بالنسبة للنظام - وفق عرابي النجار - من سيطرته على الأحياء المتاخمة للأحياء الموالية (النزهة، الزهراء، عكرمة) قبل إطباق الحصار، ثم تجميع المقاتلين وعزلهم محاولاً إبادتهم في منطقة جغرافية محاصرة، ليكون العاشر من حزيران 2012 أوّل يوم معارك بين الطرفين، حين اقتحم النظام حي الغوطة بغرض التفتيش لكنّه ثبّت حواجزه في الحي.
معارك العام الثاني من الحصار
كانت المعارك إمّا محاولات من المعارضة لفتح طريق أو من النظام للدخول، وهناك جبهات ساخنة وأخرى باردة، ومن أهم الجبهات: "باب هود، شارع القاهرة، كرم شمشم، مساكن التأمينات، القصور"، وخلال مطلع العام 2013 استعاد مقاتلو المعارضة السيطرة على حي القرابيص عبر معركة استمرت يوماً واحداً سبقها حفر خنادق، وبالسيطرة عليه استطاع المقاتلون التوسّع لفتح طريق لبساتين الوعر وهي "معركة مهمة في تاريخ الحصار".
وهنا يشير الحاج عبيد، إلى أهمية حي القرابيص، بأنَّ استعادة السيطرة عليه عبارة عن "شريان أساسي يجب ألا يخسره الثوّار" لكون بساتينه تمتد إلى بساتين حي الوعر، بينهما ساقية (نهر العاصي) يطلّ عليها برج الكاردينيا المعروف بـ"برج الموت"، حيث تعتليه قناصات النظام التي تستهدف المارة، والسيطرة على هذه البساتين كانت متبادلة بين النظام والمعارضة، بينما الطريق كان عبر خندق وعِر جداً وازداد صعوبةً عندما أغرق النظام منطقة البساتين المنخفضة عن منطقة الأبنية بالمياه، مضيفاً: أنَّ الخندق الثاني كان من حي الخالدية لقرية الحصوية (بوابة المدينة لريفها الشمالي) تمّت خسارته بعد أسابيع من فتحه، وجرى خلاله إخراج 245 جريحاً وإدخال ذخيرة وطعام فقط.
وفي منتصف حزيران 2013، سيطر النظام على حي كرم شمشم شرقي حي الخالدية، بعد أن شهد أشرس المعارك فلا ينتهي يوم الاشتباك إلا بسقوط عدد من المباني السكنية ومقتل وإصابة معظم مقاتلي المعارضة، ثم سيطر على جزء من حي وادي السايح المقابل للخالدية، إضافة إلى سقوط منطقة مساكن التأمينات (جهة مهمة قرب الخالدية)، ليشنّ بعدها النظام هجوماً بمختلف أنواع الأسلحة على الخالدية. بحسب القيادي عرابي النجار.
ويضيف "النجار" أنَّ المعارك تزامنت مع قصف عنيف طال أيضاً مسجد الصحابي خالد بن الوليد، واستمرت لنحو شهر (عبارة عن هدّ الأبنية واقتحام الشارع)، لينسحب المقاتلون منه، في 29 تموز 2013، بعد أن قتل معظم القادة وأولهم بطل العالم في رياضة كمال الأجسام فراس سيد سليمان، في 4 تموز 2013. مشيراً إلى أنَّ أهميته الاستراتيجية كبيرة، لأنَّه يصل بين الأحياء القديمة من جهة، وأحياء جورة الشياح والقرابيص والقصور من جهة أخرى، إضافة إلى وجود المطاحن، المصدر الغذائي من الطحين للمحاصرين.
وبعد أن مضى عام كامل على وعود فكّ الحصار ودخول مؤازرات من الريف، وفق ما أفاد به القياديان، وصل المحاصرون إلى مرحلة الجوع، وخلال شهر انتهت المؤونة في المنازل والمحال التجارية من برغل وأرز وعدس وحمّص وزيتون، بسبب سقوط حي الخالدية والمطاحن، لأنَّ الخبز كان أساسياً للغذاء ولا يوجد مخزون طعام (مستودعات)، وهناك محاولات لإدخال طعام وذخيرة من طريق بساتين الوعر، إلا أنَّه طريق ممتلئ بالصعاب فلا يكاد يصل نصف الكمية لتساقطها على الطريق.
هذا الأمر دفع المحاصَرين لخوض معركة المطاحن في الثامن من كانون الثاني 2014، بمثابة "الأمل الأخير"، لكن اكتشافهم من قبل عناصر النظام أوقعهم بكمين أفضى إلى مقتل نحو 54 مقاتلاً، في حين نجا منهم ثلاثة فقط.
ويوضح "الحاج عبيد" أنَّ هدف المحاصَرين كان الوصول إلى نقطة ممتلئة بالقمح في المطاحن، لكن بعض الأخطاء اللوجستية أدّت إلى خسارة المعركة، فكانت بمثابة "طحن نفوس الثوّار، بعد تقاعس وخذلان المناطق الخارجة عن الحصار".
"التسويات مع النظام"
بدأت "التسوية" مع النظام لأبناء الحصار بشكل تدريجي منذ انتهاء "مفاوضات جنيف2"، في شباط 2014، والتي نتج عنها دخول وفد الأمم المتحدة إلى الأحياء المحاصرة لإجلاء العائلات والجرحى، وسط ازدياد الجروح والانهيارات في صفوف المحاصَرين، بعد فشل هذه المفاوضات، فضلاً عن فشل محاولات فكّ الحصار رغم إعلان معارك ذات صيت كبير مثل "الجسد الواحد" و"قادمون يا حمص"، التي وصفها المحاصَرون بأنَّها "مجرَّد استجرار للمال"، لا سيما بعد فقدان الأمل من مساندة مقاتلي حي الوعر أقرب النقاط للأحياء القديمة.
ووفقاً لـ عرابي النجار، فإنَّ مفاوضات جنيف2 كانت بمثابة "إعطاء النظام الضوء الأخضر الدولي لإبادة المقاتلين بعد إخراج العائلات والجرحى ومن يودّ منهم (التسوية)"، وهنا أقدم نحو 550 من مقاتلي المعارضة على تسليم سلاحهم وإجراء "تسوية" مع النظام، حيث تم تجميعهم في مدرسة الأندلس بشارع الدبلان، وجرى تصويرهم من قبل إعلام النظام الذي أفرج عن قسم وما يزال يواصل اعتقال القسم الأكبر منهم حتى اليوم، وكان ذلك دافعاً للمحاصرين على خوض معركة شرسة، خلال الشهر الأخير، قبل الخروج.
وفي هذا الصدد، يذكر الحاج عبيد، أنَّ النظام في الشهر الأخير من الحصار استشرس بحملته العسكرية، فما كان منهم سوى الدفاع عن أنفسهم، إذ عجز عن السيطرة عسكرياً، وكانت هناك محاولات مهمة من المحاصرين هدفها إيصال رسالة للنظام بأنَّهم "لن يستسلموا له"، ففي 6 نيسان 2014، حاولوا اقتحام مراكز للنظام في سوق المدينة المهجور بالكامل حينذاك، ويعد ثكنة عسكرية، عبر سيارة ملغّمة مُعدّة بإمكانيات متواضعة جدّاً، لكنَّها انفجرت قبل دخولها ومن دون معرفة السبب، راح ضحيتها ما لا يقل عن 54 قتيلاً بينهم 33 موثقون بالاسم و21 من مجهولي الهوية، وعشرات الجرحى.
ويشير القيادي السابق في "كتائب الفاروق"، إلى أنَّ عملية اقتحام حي جب الجندلي التي بدأت بملغّمة، في 19 نيسان 2014 واستمرت نحو ثلاثة أيام، جاءت كردّ فعل لإيقاف هجوم النظام، وتمّت خلالها السيطرة على الأبنية المحاذية لمسبح الجلاء وصولاً إلى مقبرة "الصحابة والأشراف"، مضيفاً أنَّ سبب اختيار هذه الجبهة لأنّها "تعدُّ باردةً نسبياً من جانب النظام، وقريبة من حي النزهة الموالي له"، ولكن انسحب منها المقاتلون خشية الاستنزاف باستمرارها.
أبرز دوافع الصمود في الحصار
كان من الصعب فكّ الحصار عن أحياء حمص من الداخل، الأمر الذي قابله تقاعس كبير من المعارضة خارج هذه الدائرة، ورغم أنَّ المعارك كانت بمثابة استنزاف في الداخل مثل: معركة "صب النيران" و"الفتح المبين"، إلا أنَّ مقاتلي الحصار لم يتركوا جهداً في المشاركة بأيّ معركة تُعلن نصرةً لهم، حتى خروجهم بالحافلات الخضر التي اتبعها النظام كسياسة بالسيطرة على بقية المناطق السوريّة، ويلخّص القياديان في ختام حديثهما أبرز دوافع الصمود وهي:
- فاتورة الدماء التي دفعها المقاتلون وأجساد الضحايا المتوارية في أرض حمص حتى فاضت بها كلّ بقعة تراب من المقابر والحدائق.
- يقين معظم أبناء المدينة أنَّهم إن خرجوا منها لن يعودوا على المدى المنظور.
- للصمود لذة لا يعرفها إلا من آمن إيماناً تاماً بالثورة، فكلَّما كان يُقضى يوم يشعر الثوّار بأهمية منعهم النظام من دخولها والسير على تراب قد ارتوى من دماء أُريقت كي لا يدخلها.
- وصول الثوّار إلى قناعة بأنَّهم يقاتلون وحدهم، مع توالي الخيبات من خارج الأحياء المحاصرة رغم بعض محاولاتهم غير المكتملة.
وكانت هناك عدّة محاولات لفتح طريق من داخل الحصار منها: محاولة دخول حي البياضة عبر حفر خندق من الخالدية قضى خلالها القيادي الشركسي "أبو أسعد"، عندما وصل إلى منتصف البياضة، في 23 كانون الأول 2012، حيث استهدفهم النظام بغازات سامة، كما تُعدّ معركة القلعة "مهمة في تاريخ الحصار"، وكانت بمثابة مؤازرة لمقاتلي بابا عمرو، في آذار 2013.
يصعب توثيق أحداث 700 يوم من حصار حمص في تقرير صحفي، وهناك الكثير من القصص والمواقف التي تحتاج إلى توثيق كي لا تندثر مع مرور الزمن، واليوم يعيش مَن بقي على قيد الحياة من المحاصرين مشتّتين في دول اللجوء ومناطق الشمال السوري، ينتظرون العودة إلى مدينتهم بعيداً عن "الأسد" وميليشياته.