أنا من إدلب، ليست جملة من قبيل التعاطف أو مشاركة في حملة تضامنية، أنا فعلاً من إدلب، من المحافظة في أقصى الخريطة السورية شمالاً جوار الموت والقصف وصور النزوح الأخير، كم هو مأساوي أن تكون من إدلب هذه الأيام وأن تترك فيها الأهل وآخر الثورة.. آخر الحلم وبقايا الديار ومراتع الصبا وملاهي الشباب، كم هو مأساوي أن تكون من هناك.
حكاية إدلب -التي تجمع أهلها ومن استجار بهم في بعض بيوت وخيام وعراء- أنَّ ظهوراً نادراً لبشار الأسد كقائد عسكري ميداني على تخومها أسس لحرب أدركنا لاحقا أنها محسومة وأن نتائجها دبرت في ليل وما كان ظهوره إلا إشارة لبداية الحكاية في إدلب وتلك حكاية هي أم الحكايا في المدينة المآب، والملاذ الأخير، إن صح أن في سوريا مازال ثمة ملاذات.
قبل أعوام بعد أن استنزفت كل الجبهات وحسمت فيها المعارك، ماكان لرافضي نير الأسد والاحتلالات الموازية (الإيراني – الروسي) إلا قبلة واحدة، إدلب وإن كانت ظروفها صعبة حينها، إلا أنها مثلت لأولئك ملاذا، وخياراً يضمن أماناً نسبياً ونزوحاً قريباً يجنبهم قسوة الغربة والبعد عن الوطن، شيئاً فشيئًا تغيرت الظروف، فبعد أن نسفت روسيا اتفاقات خفض التصعيد وفرضت سيطرة الأسد على كل المناطق التي كانت خاضعة
ما أدركه السوريون بعدها أن سوتشي كذبة أخرى ومجالاً للتسويف وكسب الوقت للضامنين (كل الضامنين) لإرساء الأثمان
لهذه الاتفاقات كان لابد من اتفاق خاص بإدلب لحفظ ماء وجه الضامنين، ولكونها كانت المخرج لعقبة "ماذا نفعل برافضي الأسد.. نقذف بهم إلى إدلب" ولأنه ليس هناك إدلب ثانية كان اتفاق سوتشي، الذي قيل وقتها إنه نهائي ويضع حدا لما قبله لكن.. ما أدركه السوريون بعدها أن سوتشي كذبة أخرى ومجالاً للتسويف وكسب الوقت للضامنين (كل الضامنين) لإرساء الأثمان -أيٌ مقابلَ ماذا- وهنا نعود إلى الاتفاقات الأصل في أستانا حيث وزعت خرائط السيطرة التي سيؤول إليها الوضع في إدلب وتم نكرانها لاحقا وعلت صيحات التطمين بأن قوات الأسد لن تطأ إدلب وهاهي اليوم تطؤها وتسيطر على أرضها بأسرع مما هو متوقع..
لاحقا ومن المنتجع الروسي الفخم (سوتشي) ظهر الدخان الأبيض.. إنه اتفاق نهائي حول المحافظة ملخصه تعزيز نقاط المراقبة وإنشاء المنطقة العازلة وشروط عدة منها سحب السلاح الثقيل ودوريات مشتركة، مع الاحتفاظ هنا بالبند الملغم والكرت المضمون وهو- مكافحة "الإرهاب" في سوريا بكل أشكاله ومظاهره- عنوان فضفاض يستطيع بوتين تسويقه قبل كل عملية عسكرية، وهل ترى روسيا فينا أهل إدلب ومَن هُجّر إلينا إلا إرهابيين..! سؤال آخر مهم هنا هل صدق الأتراك فعلًا أن روسيا لن تقصفنا ولن تشن حربا علينا.. يبدو حسم الجواب صعباً لأن اللعبة اسمها سياسة، وكل الاحتمالات ممكنة، صدقوها أو اتفقوا معها، النتيجة أن الدم والأرض والأرزاق في إدلب حلال.
سرى اتفاق "سوتشي" مدة قصيرة، وضع فيها الضامنون خططهم الاستراتيجية القائمة بالطبع على مبدأ (ماذا سيأخذ ماذا سيعطي)، الثابت أن جميع اللاعبين يدركون أن أي اتفاق لاحق أو عدم اتفاق سيُدفع ثمنه من دماء وحياة أهل إدلب ويبدو أن ذلك لم يشكل مشكلة لدى أي من الأطراف، لا أحد يبالي بأن يصبح مصير المحافظة وقرابة الـ3 ملايين آدمي سلعة في بازار السياسة المعرّفة بـ"فن الممكن" ليغدو الممكن هو الدم
اليوم بينما شارفت اللعبة على الانتهاء، نقف على تخوم الحلم المنقضي، حلم الحرية وندرك بألم بالغ أن إدلب قلعتنا الأخيرة، وخيمتنا الكبيرة التي جمعتنا تحت سقف واحد
في المحافظة المخذولة، ويمكن بذله مقابل بضعة كيلومترات شرقاً أو شمالاً، تماماً كما يمكن وضعه على الطاولة لتمرير الصفقات..
جرى كل ذلك بينما كنا نكذب على أهلنا في الداخل، ونقنعهم بأن الأمر حسم وأن هذا الاتفاق مضمون ولن يتم خرقه، لن ينقلب عليه الضامنون أنفسهم، كنا نكذب حتى على أنفسنا.. إلى أن أصبح الواقع فجاً وأكبر من أن يسوف أو يزيف "فهل جاءكم نبأ خان شيخون وريف حماة الشمالي وماذا فعل بهما؟" اليوم بينما شارفت اللعبة على الانتهاء، نقف على تخوم الحلم المنقضي، حلم الحرية وندرك بألم بالغ أن إدلب قلعتنا الأخيرة، وخيمتنا الكبيرة التي جمعتنا تحت سقف واحد، جمعت ابن حوران مع ابن الغوطة مع ابن حماة وحمص وابن حلب، كلهم هناك الآن أو ما تبقى منهم يواجهون الجيوش والصمت والحرب، حرب الأسد التي بدأها بنفسه يوم ظهر في الهبيط لن تنتهي عند هذا الحد، لأنها حرب روسية أيضاً ولروسيا الكثير لتأخذه من دمنا.
ووسط الفاجعة لايجب أن ننسى من أوصلنا إلى هنا، من أدى بنا للقتل سحقا بالصواريخ والاتفاقات.. من الذي خذل السوريين حتى هاموا في الأرض لايعرفون أين يتجهون وكيف يهربون من الموت، فأي طريق يسلك الخارج من المعرة اليوم أو من سراقب أي مجهول ينتظره، إنه يمضي ويخلف وراءه بيته وأرضه للنهب والتدمير ولم يخلف وراءه جبهة يأمل أن تدافع عنه، يترك المعريون قبور شهدائهم وجدران دورهم وقد التصقت عليها أحلامهم وآخر القُبل والدموع، يتركون الرغيف ساخنا ويرحلون.. إلى أين؟ إلى حيث يشاء الله، إلى خيبة أخرى ففي إدلب اليوم لا يوجد مكان حرام أمام آلة عسكرية طاحنة مدعومة بصمت رهيب، صمت الموافق وصمت الزاهد وصمت غير المكترث.. ستتواصل الهجمات حتى تصل إلى الطرق الدولية وهذه مرحلة أولى، وستستمر لأن الأسد وروسيا لن يتوقفا كرمى لطرف يعتقد أن حظه في أرض غير إدلب محفوظ.. إنها لعنة الجغرافيا، وزمن القتلة وهواة السياسة واقتناص الفرص.