يندر أن تجد سورياً لا يتحدث بفخر عن سوريا التي صاغتها في مخيلته سرديات كثيرة متداولة، تُحكى بلا تأصيل حقيقي عن تاريخ موغل في القدم، أو عن حضارات كثيرة متعاقبة مرّت أو ولِدت على أرضها، عن التعايش والتسامح والأخلاق، عن الثقافة والأدب، وعن المطبخ العريق والفن العريق، وعن وعن، الخ.
ورغم أنه لكل هذه السرديات ما يؤكِّدها بهذه الدرجة أو تلك، إلا أنك سرعان ما سوف تكتشف أن ثمة فصام حقيقي بين واقع سوري معاش، وبين الاستخلاصات التي يُراد الوصول لها من هذه السرديات.
يروي السوري سرديته السورية التي يحملها، كما لو أنها هويته التي صنعها ورسّخها عبر زمن طويل، وكما لو أنّها حكر عليه بوصفه وارث أمجاد أسلافه، سواء الدينيين أو القوميين أو..أو..الخ، وأن الآخرين كانوا عابرين أو متطفلين على هذا المجد المعتّق الذي ينتمي إليه، وهو بهذا التفاخر يريد أن يردّ الاعتبار لذاته الراهنة المنكسرة والمهزومة، وأن يُحمّل الآخرين مسؤولية هذا الخراب الذي أصاب سوريا.
لا بدّ من الخروج من هذه السردية التي تعفي حاملها من مسؤوليته أولاً، وتضعه في موضع المتعالي عن، والمتهِم، لطرف سوري آخر ثانياً، وتجعل من هذا الآخر خصماً وعدواً يجب محاربته، والانتصار عليه، وهي عدا عن كونها ترسّخ العجز القائم، وتجعل الخروج منه بالغ الصعوبة، فإنّها أيضاً تتحول مع الزمن إلى مظلومية، تُضاف إلى سلسلة المظلوميات غير الحقيقية التي تتكاثر كالفطر، وتزيد من انقسام المجتمع، وتعمّق شروخه، وتجعل من الصعب - إن لم يكن من المستحيل- تغيير المسار الذي زُجّت سوريا فيه منذ عقود، مسارٌ أشبه بدوامةٍ من التراجع المستمر والمتسارع، أوصلنا إلى مشارف انهيارٍ شاملٍ، يُهدد بشكل جدي مصيرنا كشعب، وكدولة.
حقائق عدة لا يعترف السوريون بها، وإن اعترفوا بها، فإنّه لن يكون إلا اعترافاً عابراً، لا يُؤسس لأي فعلٍ تتطلبه هذه الحقائق، وأول هذه الحقائق، هي أننا اليوم نستحضر وقائع تاريخ طويل من الكراهية المعلنة أو المسكوت عنها، كراهية تضرب جذورها عميقاً في بنية ثقافتنا وهوياتنا، لم نخرجها -أقصد الكراهية - إلى مساحة الضوء لنواجهها كما ينبغي، ولم نؤسّس لأي بيئة تمنع عنها أسباب الحياة لتموت.
لعل ثاني هذه الحقائق، أننا لم نكن يوماً شعباً واحداً، فهذه الجغرافيا التي رسمتها مصالح أطراف خارجية مستعمِرة، لم تُرسم بناءً على حقائق تاريخية وديموغرافية، كأولوية لتأسيس الدولة، بل رُسمت وفق مصالح من رسموها، وهكذا وجد سكان هذا الحيّز الجغرافي أنفسهم في "دولة"، تحاول أن تتلمس ملامحها وسط تناقضات عميقة فيها، تناقضات تضرب عميقاً في بنيتها، وتحتاج للخروج منها لثقافة مغايرة ومنفتحة، دولة قادرة على صياغة علاقات جديدة بين أفرادها، تحترم تبايناتهم، وتحقق مصالحهم، وتحفظ كرامتهم وحريتهم.
الذي حدث كان على النقيض من ذلك، رغم أن المحاولات الأولى لمن يمكن تسميتهم بـ"الآباء المؤسّسين"، كانت تحاول التأسيس لما يُمكن الركون إليه في مسار استقرار الدولة، وترسيخها، وتطورها، لكن سرعان ما أُجهضت هذه المحاولات، وبدأ مسار آخر أفضى إلى دولة مسخ، مشوّهة، أعادت بعث كل التناقضات الكامنة في هذا الحيّز الجغرافي، وجعلت منها أولويات تعلو فوق الدولة والمواطنة، ويُمكن القول اليوم، إننا في سوريا ومنذ استقلالها في مطلع القرن السابق، لم نعرف الدولة بمعناها الحقيقي، وبالتالي لم نعرف كيف تُنتج معادلة الفرد/ المواطن، التي لا بديل عنها في الدولة الحديثة القابلة للحياة.
المحاولات الأولى لمن يمكن تسميتهم بـ"الآباء المؤسّسين"، كانت تحاول التأسيس لما يُمكن الركون إليه في مسار استقرار الدولة، وترسيخها، وتطورها.
لم تكتفِ عقود حكم حزب البعث في تعميق تناقضات الكتلة السكانية التي تعيش على مساحة سوريا، بل تسبّبت بما هو أخطر، وخصوصاً في مرحلة حكم عائلة الأسد، عندما أجهضت مقومات وإمكانات حل هذه التناقضات، وعزّزتها ورسّختها، كما لو أنها الحقائق الوحيدة القابلة للحياة، وإن كان هذا المسار هو ما تفرضه معادلة استمرار هذه العائلة في حكم سوريا، فلماذا غابت أصوات من يجب أن يتحملوا مسؤوليتهم التاريخية والوطنية، في الوقوف ضد هذه المعادلة من الأحزاب والمفكّرين والسّاسة؟
الفشل الأساسي الذي أوصلنا إليه حكم البعث، وتغييبه لدور الأحزاب الأخرى، ولمن يفترض بهم التفكّر في واقع ومستقبل المجتمع والدولة، كان في عدم الجواب على أهم سؤال يجب طرحه دائماً، وهو سؤال: ماذا نريد؟ بعبارة أخرى، لقد فشلت نخب السوريين في القول للسوريين أنتم تجهلون ما تريدون، وأنتم أعداء ما تحتاجون، فالدولة، والعلمانية، والديمقراطية، والقانون، والدستور، والمركزية، واللامركزية واسم الدولة ورموزها و..و.. وغيرها من مفاهيم الدولة ورموزها، ليست مجرد شعارات أو سلع يمكن اختيارها كما يشتهي البعض، أو كما تفرضه سردياته المقدسة، وليست أدوات لتمكين الآخرين من السيطرة علينا كما يتفاصح كثيرون، إنّها أولاً وأساساً مفاهيم أنتجتها تجارب حقيقية لشعوب أخرى، ودفعت البشرية ثمنها باهظاً، ومن خلالها نضجت صيغ الدولة الحديثة، وتحدّدت مرتكزاتها.
سوريا اليوم تقدم للعالم أسوأ نموذج "للدولة"، وهي بالمعنى الدقيق لم تعد دولة، فلا الشعب شعب، ولا الجغرافيا جغرافيا، وليس فيها عقد اجتماعي يحدد شكل العلاقة بين سكانها.
أوصلنا فشلنا هذا إلى دولة فاشلة ومدمّرة، والأخطر أنه أوصلنا إلى مجتمع عاجز عن معرفة ما يحتاجه فعلاً، ونخبه تتخبط بين شعبوية قاتلة، وبين قياسات متخيّلة لشعوب وثقافات وتجارب أخرى، ولم تستطع حتى اليوم أن تلاقح بين المعارف الإنسانية الواسعة وبين رحم الواقع الخاص، والأخطر أنها لم تجب على السؤال الذي ورد أعلاه، وهو: ماذا نريد، وماذا نحتاج لكي نصل إلى ما نريد؟
سوريا اليوم تقدم للعالم أسوأ نموذج "للدولة"، وهي بالمعنى الدقيق لم تعد دولة، فلا الشعب شعب، ولا الجغرافيا جغرافيا، وليس فيها عقد اجتماعي يحدد شكل العلاقة بين سكانها، وهي ليست أكثر من سلطات أمر واقع، تفرض سيطرتها عبر القوة.
من يحكم سوريا؟
من يسيطر على حدودها؟
من يدافع عن سكانها؟.
من يدير اقتصادها؟
أي دستور أو قانون يطبق فيها؟.
كلّها أسئلة توصل - إذا ما أجيب عليها بعيداً عن الشعارات، والأوهام والسرديات المخادعة - إلى نتيجة واحدة، إن سوريا لم تعد أكثر من تسمية لمنطقة جغرافية، تنتظر أن يتفق الآخرون على صياغة تعريفاتها الأساسية.