في الفيلم الرائع الحزين "حياة واحدة" 2023 للمخرج البريطاني "جيمس هاوز" والذي يجسد فيه الممثل العالمي أنتوني هوبكنز دور الناشط الإنكليزي لحقوق الإنسان نيكولاس وينتون" 1909-2015" الذي كان له دور استثنائي في حماية وإنقاذ المئات من الأطفال التشيكيين اليهود، تلك الرحلة الرهيبة من المخاطر والجهود المتزاحمة والتي بدأت عام 1938وانتهت في آذار 1939 حين اجتاحت القوات النازية تشيكوسلوفاكيا وأوقفت عملية الإنقاذ تلك، والتي تمت عبر ثماني رحلات بالقطارات التي حملت 669 طفلا من براغ إلى إنكلترا، ليتموا حياتهم في أكناف عوائل تبنتهم وأكملت تنشئتهم.
نيكولاس وينتون موظف إنجليزي يهودي، يزور براغ إبان اجتياحها من قبل القوات النازية ويزور ملاجئ الأطفال الذين شردتهم الحرب، فينخرط في مهمة إنقاذ من يستطيع إنقاذه منهم ويستنهض همم المقربين منه، فيشكلون ما يشبه المؤسسة التي تعمل على استصدار بطاقات سفر تمكنهم من العبور بواسطة القطارات من براغ إلى لندن، ويهيئ لإتمام مهمته عائلات تتبنى رعاية هؤلاء الأطفال، ريثما تضع الحرب أوزارها ويعود هؤلاء الأطفال إلى أهليهم، هؤلاء الأطفال جميعهم من اليهود الذين طاردتهم آلة القتل النازية، فكان غاية همّه وهمّ من شاركه، إنقاذهم من موت محقق، إما جوعا وبردا في الشوارع أو معسكرات الاعتقال أو حرقا بأفران الغاز النازية.
بعد عقود من هذا الفرار الصعب، وبجهود صحفية يتم نبش تلك الحكايات من قصاصات متناثرة هنا وهناك، وينجح المهتمون بجمع عشرات من هؤلاء الأطفال الناجين، بالرجل الذي كان له الفضل في إنقاذهم وإخراجهم أحياء من بلدهم التشيك.
الضحية اليوم ومنذ سبعين سنة هي الشعب الفلسطيني الذي عملت عصابات الاحتلال الإسرائيلي، على محاولات متكررة لإبادته ومحوه من الذاكرة ومحو ذاكرته
من عجائب هذه الحياة وسخريات الوقائع، أن دولة إسرائيل التي توظف وتستثمر في هذه القصص والروايات لكسب تعاطف الشعوب معها، كونها الضحية التي لم تُنصَف بعد، وهي تكتسب شرعية وجودها من هذه المظلومية، وبالتالي تبرر حقها في اغتصاب أرض لم تكن يوما لها، وتعيد ارتكاب الجريمة التي ارتكبها النازيون بحق اليهود، لكن بشكل أفظع وأكبر شناعة، وعلى مشهد من العالم أجمع، وبوقاحة وصلف لم يسبقها إليها أحد، لكن الضحية اليوم ومنذ سبعين سنة هي الشعب الفلسطيني الذي عملت عصابات الاحتلال الإسرائيلي، على محاولات متكررة لإبادته ومحوه من الذاكرة ومحو ذاكرته، وتشتيته في البلاد القريبة والبعيدة.
ذات مساء صرحت رئيسة وزراء إسرائيل "غولدا مائير" عقب إحدى المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الأطفال الفلسطينيين "لن نغفر للعرب أنهم أجبرونا على قتل أطفالهم" فهم حتى في أعتى وأشنع لحظات إجرامهم بحق الإنسانية، يسوقون أنفسهم على أنهم الضحية الوحيدة، واليوم وعبر توثيق الفضائيات والصحافة العالمية تجاوز عدد الشهداء الأطفال في غزة أحد عشر ألفاً، إضافة إلى عدد يتجاوزه بكثير من الأطفال المصابين والمعاقين، بفعل القصف المنهجي للتجمعات التي تحوي آلاف الأطفال في غزة المحاصرة، ولم يحرك كل هذا القتل الفظيع قرارا أمميا واحدا ينجح في وقف القتل والتدمير.
لقد كانت مؤسسات القتل وإدارة الحرب زمن الحرب العالمية شديدة البدائية، لدرجة أنها أتاحت لبضعة ناشطين أن ينقذوا مئات الأطفال من القتل، لكنها اليوم تتسلح بكل تكنولوجيا العصر لإحكام الحصار، فلا تسمح بوصول دواء أو غذاء أو وقود للتدفئة، فأطفالنا في غزة محاصرون بالبرد والجوع، والمرض والصواريخ والقنابل الإسرائيلية، وبحصار عربي يكمل المحرقة.
ليس هناك أدنى شك بأن هذا الكيان المتأصل في إجرامه، قد أفاد إلى حد كبير من صمت العالم عن المذبحة المستمرة التي ترتكب بحق أطفال سوريا واليمن وقبلها العراق، وهو يدرك أن ذروة رد الفعل الدولي والإقليمي على مجازره المروعة لن يتعدى التنديد والاستنكار، والشجب والمطالبة بوقف المقتلة، وكل هذا إن لم يصحبه قرار أممي ملزم ومعزز بالقوة التي يمكن أن تفرض تلك القرارات، ما هو إلا صرخة في واد، مهما علا ضجيج هذا الصراخ، وقد شهدنا تحرك وتظاهر الملايين في عواصم ومدن أوروبية وأميركية، وهذا مع تأثيره البالغ في تغيير الموقف الشعبي لدى أمم برمتها، إلا أنه في الحيز الفعلي، لم يمنع صاروخا إسرائيليا واحدا عن تدميره مشفى أو مدرسة أو مخيم لاجئين.
القرارات التي صدرت لم توقف العدوان ساعة واحدة، لثقة المجرمين الإسرائيليين بوقوف القوى الحقيقية الفاعلة في صفها، كما فعلت مع جميع القتلة الذين ارتكبوا أفظع الجرائم
لم تعد المشكلة والمأساة في دولة معتدية أو احتلال استيطاني أو نظام قمعي يقتل شعبه، بل في النظام العالمي المفصل بعناية على مقاس مصالح الأقوياء ورعايتها، وجعل سبل المحاسبة أبعد من السعي وراء السراب، بالأمس اشتعل المظلومون في كل الأرض فرحاً بالدعوى التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل والتي تتهمها فيها بارتكاب جريمة إبادة جماعية موصوفة بحق المدنيين الفلسطينيين، وبالرغم من وضوح الجرائم المتكررة والموثقة بشكل لحظي بملايين الفيديوهات والشهادات الأممية وأجساد آلاف الأطفال الضحايا، فإن القرارات التي صدرت لم توقف العدوان ساعة واحدة، لثقة المجرمين الإسرائيليين بوقوف القوى الحقيقية الفاعلة في صفها، كما فعلت مع جميع القتلة الذين ارتكبوا أفظع الجرائم، كيف لا وهذه الأنظمة العالمية القوية والمتحكمة، أسست بالأصل عبر إبادات جماعية لشعوب أصلية، وعبر استعباد ملايين البشر في أميركا وكندا وإفريقيا وآسيا، لا بد من صحوة عالمية ربما تقودها دول عانت طويلا من هذه الأنظمة الاستعبادية مثل جنوب إفريقيا، لقد استنهضت المحرقة في غزة ضمير العالم وحركت شوارعه وخلقت مراجعات جذرية لدى ملايين الشباب الأوروبي والأميركي وغيرهم كثير، ولا بد لهذه المواقف والمراجعات إن لم يتم طمسها وتشويهها أن تدفع لولادة نظام عالمي جديد يجرّم ويحاسب من يرتكب جرائم إبادة بحق الإنسانية ويقتل أطفالها الأبرياء، حتى ذلك الحين سيبقى أطفالنا يقتلون بصمت ويتحولون إلى أرقام بلا وجوه، تخفيهم المقابر الجماعية، ويضيعون في زحام الأحداث اليومية.