للشاعر الأميركي وِلْيَم كَلِن براينت (1794- 1878) قصيدة تأملية عن الموت والطبيعة بعنوان Thanatopsis (تأملٌ في الموت). كتبها عام 1811، وفيها يحاجُّ أن الموت جزء طبيعي من دورة الحياة، ويحض قراءه على عدم الخوف منه، وهو ينزع فكرة الموت من المفهوم المسيحي للحياة الآخرة (إما جنة وإما نار). فما الموت إلا عودة إلى الأرض وراحة أبدية.
وفور صدور القصيدة اتُّهم براينت بأنه سرق فكرتها وصورها ومفرداتها من قصيدة إسبانية، ذلك لأنه كان في السابعة عشرة من عمره حينها ولم يُصدِّق أحد من النقاد أن فتى بهذه السن يمكن أن يكتب قصيدة بهذا العمق الفلسفي وبهذه اللغة الجزلة والصور البيانية البديعة. ومن يقرأ هذه القصيدة يسمع فيها أصداء من قصائد عربية شتى، ولا سيما من قصيدة أبي العلاء المعري التي يرثي فيها صديقه الفقيه أبا حمزة التي يقول في مطلعها:
غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي *** نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ
وفيما يلي أقدم ملخصًا للقصيدة المذكورة، وأذكُر الأصداءَ العربيةَ فيها. وذِكري لهذه الأصداء لا يعني بالضرورة أن براينت قد استعار أو تأثر بالشعراء العرب، لأنه ليس لدينا دليلٌ قاطعٌ على حدوث الاستعارة أو التأثر فعلاً. إنما أمارس هنا ما يسمى في النقد الأدبي استجابةَ القارئ التي ترصد الأصداء التي يُحدثُها عملٌ أدبي في نفس قارئه، وما يثيره من استجابات بناءً على ثقافته وقراءاته وحتى تجاربه الشخصية. واستجابة القارئ منهج تفاعلي بين العمل وقرائه، ولذلك تتعدد الاستجابات والقراءات للعمل الأدبي الواحد. فما يراه زيدٌ في العمل لا يراه عُبَيْدٌ، وهذه التعددية في النقد مشروعة ومباحة تحت مظلة استجابة القارئ.
يقول برايَنت إذا خطر ببالك الموت فلا تبتئس ولا تجزع. بل اخرج إلى الطبيعة وانهل من حكمتها، فقريبًا لن ترى الشمس ولا البحر. وستعود إلى التراب الذي خُلقت منه. وعندها ستفقد هيئتك البشرية، وتمتزج مع عناصر الطبيعة، وهكذا ستصبح أخًا للصخرة الصماء وللمَدَرَة التي يحرثها الفلاح الفظ بمحراثه ويطؤها بقدمه، وستخترق شجرةُ السنديان كيانك بجذورها. هذا التحول من كائن بشري ذي كيان قوي مستقل إلى عنصر ترابي ضعيف يذكرنا بالعِبْرة التي يذكرها المعري في ختام مرثيته الآنفة الذكر:
وَاللَّـبِـيـبُ اللَّـبِـيـبُ مَـنْ لَـيْـسَ يَـغْتَرُّ *** بِـــكَـــوْنٍ مَـــصِـــيـــرُهُ لِلْـــفَـــسَـــادِ
لكنك لن تذهب وحيدًا إلى مثواك الأبدي، ولن تتمنى مُتَّكأً أبهى منه. بل سترقد مع أسلاف العالم الكبار والملوك وجبابرة الأرض والحكماء والطيبين في قبر فسيح واحد. فالتلال والوديان والغابات والأنهار والغُدران والمروج والبحار ليست إلا زخرفًا فخمًا لقبر الإنسانية العظيم (يقصد الأرض). وهذا يماثل قول المعري:
صَــاحِ هَــذِهْ قُــبُــورُنَــا تَــمْـلَأُ الـرَّحْـ *** ـبَ فَــأَيْـنَ الْـقُـبُـورُ مِـنْ عَـهْـدِ عَـادِ؟
خَــفِّــفِ الْــوَطْءَ مَــا أَظُــنُّ أَدِيــمَ الْـ *** أَرْضِ إِلَّا مِــــنْ هَــــذِهِ الْأَجْــــسَــــادِ
وستظل الشمس الذهبية ونجوم السماء تلقي بأشعتها على مساكن الموت الحزينة على مر العصور. وهذا القول أيضًا يستدعي إلى أذهاننا قول المعري:
فَــاسْــأَلِ الْــفَـرْقَـدَيْـنِ عَـمَّـنْ أَحَـسَّـا *** مِـــنْ قَـــبِـــيــلٍ وَآنَــسَــا مِــنْ بِــلَادِ
كَـــمْ أَقَـــامَـــا عَـــلَـــى زَوَالِ نَــهَــارٍ *** وَأَنَــــارَا لِــــمُــــدْلِـــجٍ فِـــي سَـــوَادِ
وكل من يدب على وجه الأرض لا يساوون حفنة ممن ينامون في جوفها. وهذا يشبه قول المتنبي:
سُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلُها *** مُنِعنا بها من جيئةٍ وذهوبِ
وهكذا مصيرك: ستأوي إلى مثواك الأبدي المريح. فكل من يتنفس سيلقى المصير نفسه. وهذا يشبه قول كعب بن زهير:
كلُّ ابنِ أُنْثى وإن طالَتْ سَلامتُهُ *** يَوْمًا على آلةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ
سيضحك الضاحكون حين تغادر، وسيظل أهل الهم والغم يعيشون في شِقْوتهم، وكلٌّ يطارد سرابه المفضل، لا يحول عنه ولا يزول، لكنَّ لهم ميعادًا إذا حان تركوا مرحهم وهمومهم، وانضموا إليك في مضجعك – كبيرَهم وصغيرَهم، شيبَهم وشبانَهم. وكأن في هذا القول أصداءً من قول المعري:
رُبَّ لَــحْــدٍ قَــدْ صَــارَ لَــحْــدًا مِـرَارًا *** ضَـــاحِـــكٍ مِــنْ تَــزَاحُــمِ الْأَضْــدَادِ
وَدَفِـــيـــنٍ عَــلَــى بَــقَــايَــا دَفِــيــنٍ *** فِــــي طَـــوِيـــلِ الْأَزْمَـــانِ وَالْآبَـــادِ
فعِش وطِب نفسًا، وإذا أزِفت ساعتك لتنضم إلى القافلة السائرة منذ الأزل إلى ذلك العالَم الغامض، حيث يتخذ كلٌّ مضجعه في أروقة الموت الصامتة، فلا تكن كواحد من عبيد المناجم الذي لا يذهب إلى زنزانته إلا إذا جُلِد ظهره بالسوط. بل ادْنُ من قبرك، واثقَ الخطو، منشرحَ الخاطر، كمن يلتحف بغطاء أريكته وينام بانتظار أحلام بهيجة. وتشبيه رقدة الموت بالنوم يستدعي إلى الأذهان قول المعري:
ضَـجْـعَـةُ الْـمَـوْتِ رَقْـدَةٌ يَـسْتَرِيحُ الْـ *** ـجِـسْـمُ فِـيـهَـا وَالْـعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ
يعيب براينت على الإنسان فزعه من الموت، وتفجعه على هذا المصير المحتوم، وكذلك عاب المعري على الراثي المتفجع بقوله:
أَسَـــفٌ غَـــيْـــرُ نَــافِــعٍ وَاجْــتِــهَــادٌ *** لَا يُـــؤَدِّي إِلَـــى غَـــنَـــاءِ اجْــتِــهَــادِ
طَـالَـمَـا أَخْـرَجَ الْـحَـزِيـنُ جَـوَى الْحُزْ *** نِ إِلَـــى غَـــيْـــرِ لَائِـــقٍ بِـــالــسَّــدَادِ
فيما سبق أصداء من قصائد عربية في قصيدة براينت "تأمل في الموت." لكن هل تدل هذه الأصداء بالضرورة على علاقة تأثر فعلية؟ لا تكفي أوجه الشبه بين الأعمال الأدبية لإقامة الدليل على حصول التأثر، ولا سيما في موضوع كوني مثل الموت الذي ليس طابع ثقافي محلي. وإنما قد تتشابه أفكار الشعراء في تصورهم للموت نظرًا لوحدة الموضوع.