تعرض دار المزادات الباريسية Audap & Associés لزبائنها، ومن خلال نشرتها الدورية الصادرة قبل أيام، مجموعة "نادرة" من الألواح المأخوذة من بيت دمشقي، مصنوعة من الخشب المنحوت والمزخرف بالجبس، والمزينة بالرسم البارز الخفيف، والمدهونة بالألوان المتعددة، والمذهبة والمطلية بالورنيش بتقنية العجمي.
وبحسب الصور المنشورة، فإن الألواح التي تشمل 11 عنصرًا معماريًا مزينة برسومات لبقات الزهور، والمزهريات، ومناظر معمارية، وحجيرات متعددة الأضلاع، وزخارف متعرجة، وزخارف نباتية، ونماذج مجردة، على خلفية ملونة. بما في ذلك الجزء العلوي من محراب به مقرنصات، و22 لوحًا مزينًا بالخط "النستعليق" تحتوي على الأبيات الخمسة عشر الأولى من "القصيدة الهمزية" في مدح الرسول للبوصيري، مؤرخة بـ 1174 هـ / 1760-61 م.
وبحسب الدار، فإن أصحاب هذه المجموعة هم ورثة الكولونيل في الجيش الفرنسي أنطوان بيير مانيس (1878-1943) وهو ضابط مدفعية، أُرسل إلى سوريا في بداية الانتداب الفرنسي عام 1920 وأصبح عضوًا في هيئة الأركان في دمشق. فكان مساعدًا سابقًا للجنرال جورج كاترو في دمشق، ثم تحول إلى قائد سرب في عام 1926. وقد "اشترى" هذه الألواح الخشبية في دمشق عام 1925، عندما كان في منصبه هناك، وأعادها إلى فرنسا عند عودته في عام 1940.
مجموعة الألواح الخشبية المعروضة للبيع بثمن بخس، قدرته دار المزادات بما يتراوح بين 15 و25 ألف يورو، ستباع على حالتها، حيث تُظهر الصور تلفياتها، واهتراءاتها، وتقشر طلائها، ونقص في الألوان والخشب. بالإضافة إلى تلاشي تفاصيل نقش بعض الكلمات والأبيات.
في مرحلة ما بعد عام 2011، جرى تعميم الخراب وأفلت نظام الأسد ضباعه في كافة القطاعات، وخاصة قطاع الآثار والمقتنيات التاريخية الثمينة، حيث جرى وما زال يجري نهب كل ما يصل إليه هؤلاء
المتابعون لشؤون المزادات التي تتضمن عناصر قادمة من دمشق لن يستغربوا عرض الدار الباريسية، فقد ازدادت في الفترة السابقة الأخبار عن بيع غرف دمشقية كاملة، تم نقلها من موطنها الأصلي في أوقات متباعدة، مع ترجيح أن ذلك قد حصل تحت سمع وبصر المؤسسات المختصة، سيما وأن نقاشًا سابقًا جرى حول الأمر في العام الماضي، عندما نشرت دار Christies البريطانية من خلال موقعها الإلكتروني إعلانًا لبيع غرفة دمشقية، من المحتمل أنها تعود للفترة العثمانية، في مزاد، وقدرت ثمنها بين 40-60 ألف جنيه إسترليني! حيث أجاب المدير العام للمديرية العامة للآثار والمتاحف نذير عوض، على سؤال موقع أثر برس المحلي حول تصرف مؤسسته تجاه الواقعة، فقال "إنه في حال ظهور أي قطع أثرية أو تراثية في السوق السوداء أو خارج سوريا، فالتدخل لإيقاف بيعها يعتمد على وجود وثائق تثبت أن هذه القطعة المعروضة كانت في مكان ما بسوريا سواء كانت هذه الوثيقة (صورة أو مقال أو رسمة) بتاريخ قديم"، وأشار في السياق إلى أن صناعة مثل هذه الغرف تقليدية ومرخصة، ولا تقتصر على دمشق، بل ثمة ورشات في دول الجوار تنتجها وتصدرها.
غير أن السؤال الذي لم يخطر في بال المحرر حول هذه القصة، لا يتعلق بغرفة هنا أو ألواح هناك، بل بالبيوت التي خرجت منها هذه التفاصيل المعمارية الثمينة، وبالأحياء الدمشقية التي احتوتها. فمزاد لندن يتشابه مع مزاد باريس، في كون المعروضات هنا إنما تعود إلى العهد العثماني، وفق فحوصات الخبراء، أي أنها ذات قيمة تاريخية، وكذلك ثقافية ودينية، حيث اشتركتا أيضًا بكونهما تحتويان أبيات من قصيدتي البوصيري الشهيرتين في عالم شعر المديح، حيث تزين أبيات قصيدة البردة غرفة لندن، وتعلو أبيات قصيدة الهمزية ألواح باريس!
الجزء الناقص من الحكاية المتكررة، لا يتصل بحق أصحاب الأملاك في التصرف بملكياتهم، حيث تعتبر الغرف الدمشقية من الأثاث الشخصي، بل يتعلق في الواقع بعدة حوادث تاريخية، أدت إلى حدوث دمار في أحياء دمشق، نتج عنها ركام، جرى تدوير بعض مفرداته من قبل المهتمين، حتى وصلت إلى زمننا الحالي على شكل قطع أثرية، يتم عرضها أمام هواة الصنف، وبأسعار متهاودة، توحي بوفرة المعروض وقلة الطلب!
وتشكل الأحداث الطائفية التي وقعت في دمشق بتاريخ 1860 وحملت اسم "طوشة النصارى" أو "طوشة الستين" واحدة من أبشع ما جرى في دمشق لا لجهة عدد ضحايا الجرائم الطائفية الكبير، بل إلى حجم الدمار الذي لحق بالمدينة أيضًا، حيث أدت أفعال الرعاع إلى تدمير مئات البيوت التي فر أصحابها، فوقعت تحت أيدي اللصوص الذين نهبوا محتوياتها، وحرقوها، حيث تُظهر صور التقطت لبعض الأحياء الدمشقية في الوقت، مشهدًا مريعًا للبيوت المدمرة.
أما الحادثة الثانية، فهي قصف القوات الفرنسية للمدينة بالمدفعية المرابطة في قلعة غورو غرب المدينة، في العام 1925، والذي أدى إلى دمار وحرائق موثقين في الأحياء الثائرة، وربما تكون القطع المعروضة في باريس جزءًا من ركام أحد المنازل المدمرة في هذه الجريمة. فوجود الضابط الفرنسي في المكان الذي وقعت به هذه التفاصيل التاريخية يقرّب إلى الذهن احتمال يفيد بأن ما حمله معه إلى وطنه من ألواح، إنما جاء من هذا المكان تحديدًا، وفي مثل ظرف كهذا لا تبدو المعرفة الإضافية بأسلوب حصوله عليها ذات أهمية، فالشراء في لحظات كهذه يشبه الاستيلاء، حيث يسلّم أصحاب المُلك أمرهم للأقدار بغية النجاة.
في دمشق، حي كامل يحمل اسم "الخراب"، يتجاور تقريبًا مع حي آخر اسمه "الحريقة"، وما صنعه المحتل الفرنسي في المدينة من دمار في قصف 1925 ولاحقًا في قصف 1945 خلال الاعتداء على البرلمان، لم يتوقف بعد رحيله، إذ أدت سياسات الحكومات المتلاحقة، وكذلك تنصلها من مسؤولياتها تجاه إرث المدينة، إلى جرائم لا تقل شأنًا عما فعله الغرباء. ففي غفلة من التاريخ دُمر فندق فيكتوريا التاريخي الواقع على كتف بردى، قبل دخوله ساحة المرجة، ليحل مكانه مبنى بشع بلا قيمة!
وبحجة تحسين الوضع المروري في العاصمة، اشتغلت البلدوزرات لتدمر حي العقيبة، مفسحة المجال لحفر نفق وإشادة جسر يحملان اسم "الثورة". كما تعرض حي ساروجة التاريخي إلى إبادة معمارية، قادتها محافظة دمشق، أطاحت بالعديد من معالمه الأثرية، ومنها البيوت الدمشقية التي نُهبت غرفها المصنوعة على يد أمهر الحرفيين.
أما في وقتنا الحالي، أي مرحلة ما بعد عام 2011، فقد جرى تعميم الخراب، وأفلت النظام ضباعه في كافة القطاعات، وخاصة قطاع الآثار والمقتنيات التاريخية الثمينة، حيث جرى وما زال يجري نهب كل ما يصل إليه هؤلاء، وبيعه في الأسواق السوداء حول العالم، على هامش قصفه الحواضر بالبراميل المتفجرة.