خرج الفلسطينيون في كل أنحاء فلسطين المحتلة، تضامناً مع إخوتهم سكان حي "الشيخ جراح" الذين تُصادر بيوتهم، ومع "غزة" التي كانت تقصف بوحشية من قبل المحتل الإسرائيلي، ولم يكن للتصنيفات التي يعتمدها الساسة أو الباحثون عن عرب الضفة، أو عرب 48 أو. أو.. أي معنى، كانت الهوية الفلسطينية هي الراية الجامعة التي التف حولها الفلسطينيون.
وأنا أتابع هذه الوقفة الفلسطينية الجامعة، تمنيت للحظة لو أن سوريا كانت محتلة من محتل خارجي وللحظات أعقبت هذه الأمنية، أحسّست بالعار كما لو أنني ضُبطت وأنا أمارس فعلا يقارب الفضيحة، وبعد أن تأكّدت من أن ما أفكر فيه لن يعرفه أحد سواي، أزحت جانباً كتلة الشعارات المقدسة التي لا يجوز أن تمس، والصالحة لكل زمان ومكان والتي لا يأتيها الباطل من أي جهة، وتركت نفسي تمضي في تساؤلاتها.
ما الذي يُمكن أن يفعله الاحتلال، أي احتلال، بسوريا وشعبها أفظع وأشنع مما فعله حافظ الأسد وبعده ابنه بها؟
إذا كان لي أن ألخّص تعريف الاحتلال بعبارة واحدة، فأنا أميل لتعريفه بأنه سلب إرادة شعب ما من قبل جهة خارجية سواء عبر الاحتلال المباشر أو بدونه، مع ما يترتب على هذا السلب من نهب الاقتصاد وطمس الهوية وتدمير الثقافة وتزوير التاريخ وتهجير فئات واسعة من السكان واستبدالهم بغيرهم، أو استملاك بيوتهم وأراضيهم بأساليب غير شرعية.. إلخ.
هل يمكن إذاً قياس التحرر أو الاستقلال أو السيادة على مقياس امتلاك الشعوب لقرارها، وإن كان هذا القياس جائزاً فمن هي الدول غير المحتلة في عالمنا العربي؟
بدلالة هذا التعريف للاحتلال يُمكن تعريف التحرر أو الاستقلال أو السيادة بأنه امتلاك الشعب لقراره، وقدرته على حماية هذا القرار، وإن لم تكن القدرة على حماية القرار متحققة فإن السعي لامتلاكها هو مهمة هذه الشعوب وحكوماتها وقادتها.
هنا يبرز سؤال آخر، وهو: هل يمكن إذاً قياس التحرر أو الاستقلال أو السيادة على مقياس امتلاك الشعوب لقرارها، وإن كان هذا القياس جائزاً فمن هي الدول غير المحتلة في عالمنا العربي؟
في مشهد آخر له دلالاته البالغة أيضاً والذي عمَّ مناطق سيطرة النظام السوري طوال الشهر المنصرم وأقصد مظاهر سوْق الناس (مرغمين أم غير مرغمين) إلى ساحات الإذلال، والتظاهر بفرح كاذب مبالغ فيه لجموع تعيش أسوأ محنة في العالم، بدا المشهد من ألفه إلى يائه غريباً وعبثياً وفي وجهه الآخر بدا صادماً ويبعث على الحزن والقهر، هذا المشهد قادني إلى السؤال الفجيعة:
- لو كانت سوريا محتلة من جهة خارجية، هل كان السوريون سيقبلون الذهاب إلى هذه المهانة المعلنة التي يرتبها محتلهم؟
بعبارة أخرى، هل كان السوريون سيحتملون كل هذا القهر والعبثية، لو كان من يقوم بها محتل؟
المشهد الأخير الذي توّج المشهد الذي سبقه والذي تجلى بخطاب "النصر" الذي ألقاه بشار الأسد، بعد إعلان نتائج مسرحية الانتخابات كان أشد المشاهد غرابة وابتذالاً وفيه قال بشار الأسد بوضوح وصراحة شديدين:
- "أنا الوطن".
- أيّها السوريون، لقد انتصرتم، لأنني باقٍ في موقع الرئاسة، انسوا جوعكم ودماركم وخراب وطنكم انسوا قتلاكم ومستقبل أولادكم ولقمة خبزكم المغمسة بالقهر، واحتفلوا فلقد انتصرتم والدليل أنني ألقي الآن خطاب الفائز في انتخابات الرئاسة.
- أيّها السوريون من وقف معي هو الوطني ومن وقف ضدي هو الخائن، ولن يكون له مكان في مملكتي.
- السوري هو من يواليني ويصوت لي ومن يرفضني ليس سوريا حتى وإن حمل جواز سفر سوري.
- أيّها السوريون ابقوا في خدمتي فأنا غاية وجودكم ومعناه.
هل سبق لطاغية في العالم أن فعل بشعب ما فعله بشار الأسد بالسوريين؟
والوجه الآخر للسؤال: هو هل يجرؤ محتل ما على القول لشعب محتل من قبله: أنا وطنكم وأنا معنى وجوهر وجودكم؟
بالعودة إلى سؤال الاحتلال ودلالة خروج الفلسطينيين على كامل مساحة فلسطين لإعلاء هويتهم الفلسطينية، بما فيهم الأجيال التي ولدت وشاخت في ظل الاحتلال، أو ما يعرف بمناطق ال 48، فإنّ الرسالة التي تُعيد تعريف كثير من المصطلحات والمفاهيم حول الهوية والوطن والاحتلال هي: إن خطر الاحتلال على الشعوب قد يكون أقل بكثير من خطر الطغاة على شعوبهم.
ليست دعوة لقبول الاحتلال ولا للهدنة معه، بل هي دعوة للتبصر بمخاطر الطغاة وفداحة ما يترتب على بقائهم في موقع السلطة.
73 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي لم تستطع أن تقسّم الشعب الفلسطيني إلى شعبين، لكن بشار الأسد فعلها، فلم يقسّم السوريين وحسب بل وجعل منهم أعداء وأشعل حرباً بينهم وها هو يمضي إلى ما هو أفظع، عندما يصنفهم إلى خائن ووطني وعندما يجعل من المحتل وطنياً ومن السوري الذي يقف ضده عميلاً وخائناً.
هل تصبح الوصاية الدولية على سوريا مبرّرة في حال استمرار بشار الأسد في حكم سوريا؟
هل يمكن القول: إن انهاء آثار الاحتلال وتعافي الشعب المحتَل، قد يكون أسهل من إنهاء آثار الطغيان؟ وإن الشعوب الخارجة من تحت حكم المحتل هي أكثر قدرة على امتلاك تاريخها وقرارها من الشعوب التي عانت من حكم طغاتها؟
يقودنا هذا إلى سؤال آخر، هل تصبح الوصاية الدولية على سوريا مبرّرة في حال استمرار بشار الأسد في حكم سوريا؟ وأنه من الأفضل للسوريين أن يكونوا تحت وصاية دولية من أن يظلوا تحت حكم بشار الأسد؟
إنها مجرد أسئلة ربما تدور في رأس الآلاف، وبل ملايين من السوريين الباحثين عن الخلاص.