لم يكن في بال السوريين عندما غادروا بلادهم إلى لبنان أن تكون أزمتهم الإنسانية جزءاً من جملة أزمات على كل الأصعدة منها السياسية والصحية والمعيشية والاقتصادية، وتتفاقم يومياً في بلاد باتت شبه خالية من الدولة.
وحملت المساحة اللبنانية الصغيرة في كنفها عدداً كبيراً من اللاجئين الفلسطينيين سابقاً والسوريين الآن، وفي حين يعيش اللاجئ الفلسطيني ضمن مخيمات إسمنتية لا يزال اللاجئ السوري في مخيمات منتشرة في كل مناطق لبنان، وممنوع عليه أن يرفع جداراً ضمن خيمته، فتبقى الخيمة قماشاً وخشباً، وهي بحسب مراقبين وناشطين سياسة ممنهجة تسعى من خلالها السلطات اللبنانية لتلافي ما كان باعتقادها أنها أخطأت به، في مساعدة اللاجئين الفلسطينيين على البقاء والتوطين لو مؤقتاً.
تأجير أرض الخيام
المخيمات السورية في معظمها مبنية على أراضٍ خاصة وليست حكومية، أو وقف أو مشاع، ولذلك فإن أغلب هذه الأراضي مستأجرة من أصحابها بأرقام ليست بالقليلة، إذ تقسم أجرة الأرض على عدد الخيام المبنية عليها مع التزام سكان خيامها بدفع كل ما يترتب عليهم من ضرائب وكهرباء واشتراك كهرباء ونظافة في أغلب البلديات.
تمكن اللاجئون السوريون الأوائل في لبنان من استئجار شقق سكنية، وعند ازدياد عددهم لاحقاً تم بناء مخيمات لهم، كانت هذه المخيمات مكفولة سابقاً بأجرة أرضها من قبل جمعيات خيرية ومنظمات إنسانية، أما الآن وبعد انحدار الأوضاع الاقتصادية في البلاد وضعف الخدمات المقدمة للاجئين السوريين في لبنان، لم يعد هناك من يتكفل بهذه المخيمات.
ارتفاع مطّرد لإيجارات المنازل في لبنان
وتناسب ارتفاع أسعار إيجار الشقق السكنية للسوريين طرداً مع ازدياد عدد اللاجئين وإقبالهم على استئجار الشقق السكنية، ففي حين كان إيجار الشقة السكنية شهرياً قرابة 200 دولار أميركي في المناطق ذات التصنيف الجيد جداً، بات هذا المبلغ لا يكفي حالياً لاستئجار مستودع فارغ وتحويله إلى مكان للسكن، ويساوي هذا المبلغ الآن نحو 300 ألف ليرة لبنانية.
وتحتاج العائلة المستأجرة وسطياً لنحو 300 دولار أميركي شهرياً ثمن فواتير الكهرباء والمياه وغيرها من المصاريف الثابتة.
وبحسب إحصائية لمفوضية شؤون اللاجئين فإنه وحتى نهاية عام 2020 بلغ عدد الوحدات السكنية التي يستأجرها السوريون في لبنان أكثر من 194 ألفاً.
وتتراوح أجرة البيوت في المناطق القريبة من الحدود السورية مثل شتورة ومجدل عنجر وبر الياس والمرج بين 250 و500 دولار، أما في المناطق القريبة من بيروت، فتتراوح بين 500 دولار للمنزل غير المفروش و 1000 دولار.
وفي شمالي لبنان تتراوح أجرة المنزل من 300 دولار حتى تصل إلى ما يقارب الألف.
وقال الدكتور ناصر ياسين مدير الأبحاث في معهد عصام فارس بالجامعة الأميركية في تغريدة على حسابه في تويتر "إن 378 مليون دولار أميركي هو المبلغ الذي يدفعه السوريون في لبنان سنوياً لقاء إيجارات السكن، أي ما يعادل 1.04 مليون دولار يومياً.
سعران للصرف يفتحان باب الجشع
كل هذه الإيجارات تسجل في عقود الإيجار لدى كتاب العدل بالدولار الأميركي، لكن بحسب سعر تصريف الدولة اللبنانية بأن كل دولار يساوي 1515 ليرة لبنانية في حين بلغ السعر بعد الأزمة الاقتصادية في السوق السوداء 15500 ليرة، تسبب بمشكلة للمؤجر والمستأجر، فالأول شعر بالظلم والثاني أصبح ضحية جشع بعض أصحاب العقارات الذين رفعوا السعر أكثر وهددوا المستأجرين بإخلائهم من المنازل.
ضربات الأزمة الاقتصادية في لبنان على السوريين لا تقف هنا، فهذا الواقع المأساوي لكل من يعيش في لبنان يتزامن مع تأثيرات وباء كورونا على سوق العمل وما تسببه من خسارة كثير من اللبنانيين والسوريين على حد سواء لأعمالهم ووظائفهم.
وهذا ما دفع مفوضية شؤون اللاجئين في تشرين الأول من عام 2020 أن تقول بصريح العبارة: "إن ما يقارب الـ 90% من السوريين في لبنان باتوا يعيشون تحت خط الفقر بالمقارنة مع 55% في عام 2019".
ويقول فراس الرايد وهو لاجئ سوري في طرابلس: "كنت أسكن في منزل في حي النزهة في طرابلس منذ بداية قدومي إلى لبنان في عام 2014 وحتى شهر أيار الماضي، وكنت أدفع مبلغ 600 ألف ليرة لبنانية أي ما يعادل 400 دولار أميركي قبل الأزمة، لكن سوء الأوضاع الاقتصادية وارتفاع سعر الدولار دفع صاحب المنزل إلى زيادة مبلغ مئة وخمسين ألف ليرة لبنانية لتصبح أجرة منزلي صافية دون الكهرباء والماء والاشتراكات والاإنترنت تصل إلى 750 ألف ليرة لبنانية، وأنا أعمل كعامل يومي في شركة زيوت سيارات أتقاضى لقاء عملي مبلغ 40 ألف ليرة لبنانية منذ الصباح حتى المساء أي ما يعادل مليوناً و200 ألف ليرة لبنانية وهو مرتب لا يكفيني وعائلتي في الوضع الراهن نهائياً".
ومنذ شهر طالب صاحب المنزل من فراس زيادة جديدة ورفع الأجرة بقيمة 100 دولار ليصبح الإيجار الجديد للمنزل مليوناً ونصف المليون ليرة لبنانية، وهو مبلغ يزيد على راتب شهر كامل لفراس الذي يعمل من الصباح وحتى نهاية المساء.
اضطر فراس لترك المنزل والبحث عن آخر أجرته أقل من ذلك، ويضيف في حديثه لموقع تلفزيون سوريا: "لكن مع الأسف أسعار أجرة العقارات باتت مرتفعة جدا فبعد رحلة بحث دامت شهراً وجدت منزلاً واستأجرته والمنزل مكون من غرفتين، حيث يكاد يكون مدمراً من داخله وذلك لقاء مبلغ 750 ألف ليرة لبنانية".
لم يستطع فراس الحصول على خيمة بسبب القرارات اللبنانية الجديدة التي تتطلب أذونات كثيرة وموافقات أمنية كثيرة تدوم لأشهر حتى يتم الحصول عليها، ليكون المنزل الجديد خياره الوحيد حالياً.
حالة فراس هي النمط السائد لدى السوريين في لبنان، فالنسبة العظمى مرت بما مر به أو قرر قسم ترك البلاد وركوب قوارب التهريب إلى مكان آخر، ففي كل يوم تزداد الحياة في لبنان تضييقاً على ضيوفه السوريين، في ظل خيارات جميعها سيئة، فالعودة إلى سوريا تعني المخاطرة بالأرواح وهي ليست أحسن حالاً، وقوارب التهريب لا تصل إلى شواطئ أوروبا بعد أن عززت قبرص واليونان حدودهما البحرية.
وهكذا تبقى المأساة رفيقاً يومياً للسوري المطحون على كل جبهات الحياة، والذي بات لا يعلم ما مصيره غداً.