تطلق جامعة الأزهر بمصر اسم العالِمية (بكسر اللام) على شهادة الدكتوراه، ومع أن هذه التسمية لم تُعتمد ولم تلقَ رواجاً، إلا أنها تحمل دلالة على أن الشخص الذي يحمل هذه الشهادة قد أصبح عالِماً في مجال تخصصه، وهو ما لا نراه أو نلمسه -غالباً- في عالمنا العربي.
فللألقاب الأكاديمية عندنا سيرة ملأى بالغصات، تجاوزت أسوار الجامعات إلى الشارع وأضحت حديثاً للناس والصحافة، وصولاً إلى قاعات المحاكم التي باتت ساحة للفصل في كثير من قضايا التزوير والانتحال والاعتداء على حقوق الملكية الفكرية.
شهوة الدال نقطة (د.) وسحرها قبل الاسم، ليست جديدة ربما، إلا أنها تضخمت في تسعينات القرن الماضي وبرزت لما صارت في متناول المسؤولين والسياسيين والأثرياء من هواة الألقاب، ذلك أن جامعات دول أوروبا الشرقية التي انسلخت عن الاتحاد السوفياتي، راحت تبيع الأخضر واليابس، ومن ذلك الشهادات الجامعية والألقاب الأكاديمية، وما هي إلا بضع سنين حتى أتخمت جامعاتنا ومؤسساتنا بدكاترة لا يعرفون من اختصاصاتهم إلا أسماءها.
ومع القفزة التكنولوجية الهائلة مطلع القرن الحالي، وكثرة الراغبين في تحسين درجاتهم الوظيفية وملامحهم الاجتماعية، ظهرت "دكاكين" افتراضية على الشابكة لبيع الرسائل والأطروحات الجامعية العليا، علناً وبلا مواربة، فكثرت الألقاب والشهادات وقلَّ المُنتَج، وتضخم عدد الأساتذة في الجامعات وتراجعت جودة التعليم!.
والكارثة التي تنبئ بمزيد من التدهور، هي أن الجامعات التي تمنح الدرجات الأكاديمية في العالم العربي، لا تعتمد معايير علمية شديدة تمنع الانتحال والسرقة الفكرية، وفق ما يؤكد الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السليمان الأستاذ بجامعة لوفان ببلجيكا، ويضيف أن الأمر مختلف تماماً في الجامعات الغربية التي تعتمد برامج تمنع أي انتحال أو اتكاء غير منهجي أو مسموح به علمياً.
كما أن باحثي الدراسات العليا يلجؤون غالباً إلى اختيار موضوعات لرسائلهم أشبعت وقُتلت بحثاً وتمحيصاً، وهو ما من شأنه أن يقلل الإبداع ويراكم مخطوطات ترفع أصحابها إلى مقام جديد من دون أن ترفع أمتهم معرفياً ولو درجة أو بعض درجة.
وربما يكون هذا الأخير سبباً في غياب أطاريح الدكاترة الجدد عن عالم النشر، فلا جديد يمكن أن يثير الجدل أو يعرك مقلة المعرفة، على أن غياب الأطروحات الجامعية عن طالبي الاستزادة من منابع المعرفة المتجددة، يكرس القديم ويجعله مرجعاً وحيداً، أو يحيل إلى الغربي المتجدد الذي ينافس نفسه في الابتكار.
إلا أن إهمال نشر الرسائل الجامعية العليا وحرمان سوق المعرفة منها ليس جديداً، فكثير من الدكاترة لم ينشروا رسائلهم ولا كتاباً واحداً في حياتهم، واكتفوا بتدريس مقررات غيرهم في كلياتهم، حتى إن النقد في هذا الباب طال أحد أعرق اللغويين العرب، الدكتور الموسوعي شاكر الفحام، رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق منذ عام 1986 حتى وفاته 2008، والذي اشتغل وبرز في السياسة والتعليم والتعريب، إلا أنه لم ينجز في حياته العلمية التي امتدت لأكثر من نصف قرن سوى ثلاثة كتب معروفة، كلها نهلت من التراث (الفرزدق "رسالة الدكتوراة نشرت بعد نحو 15 عاماً من مناقشتها"، نظرات في شعر بشار بن برد، مختارات من شعر الأندلس).
ولعله من الضروري الإشارة إلى أن الأطروحات الجامعية ليست صالحة للنشر والتسويق في حلتها الأكاديمية، كما يؤكد الباحث الدكتور سعد البازعي، فلا بد من إعادة كتابتها بأسلوب يمكن للقارئ العادي تناوله بيسر بعيداً عن التعقيدات والضرورات الأكاديمية التي تفيد في موقعها وتستحيل عقبة وسداً عندما ينتقل الخطاب من المستوى الأكاديمي إلى مستوى التلقي الجماهيري، الذي وإن كان نوعياً فإنه لا يستغني عن فسحة متعة يراها محتملة دائماً مهما كان نوع الكتاب الذي يقلبه.