يبدو أن بعضهم يتجاهل الحقائق أو ربما يقفز عليها قصداً، فالمجرمون يُنعون على أنهم أبطال وشهداء، ومن على يديه أزهقت آلاف الأرواح يعتبر قائداً عظيماً، ولذلك يتوجب علينا أن نبرز ولو نزراً يسيراً من جرائمهم، لنوضح حجم المشكلة الأخلاقية والانفصال عن الواقع والتزوير الصريح للتاريخ الحديث والمعاصر الذي نعيش فيه.
مات عنصر نظام الأسد وبندقية حافظ الأسد ومن ثم بشار الأسد، "أحمد جبريل" الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة في دمشق ودُفن في مخيم اليرموك على مقربة من بعض ضحاياه، مغطى بالعلم الفلسطيني الذي قتل من أبنائه آلاف الأبرياء في 83 عاماً معتاشاً على أكتاف القضية وضرب أبنائها وجيرانهم.
سارعت الفصائل الفلسطينية (يمين ويسار) إلى نعي القيادي الذي بقي على رأس جبهته 53 عاماً فقط! مورثاً أبناءه مشوار النضال ككل الطغاة العرب، متناسين كل ما قام به جبريل في 6 عقود.
وفي قراءة لبعض النعوات ستشعر عزيزي القارئ أن جبريل لم يكن سياسياً عادياً أو مناضلاً طبيعياً، فقد زاد ممثلو الفصائل الفلسطينية بمختلف أنواعها توجهاتها وتشعباتها من وتيرة النفاق ورشوا بعضاً من البهارات والتوابل على جسد المناضل "أبو جهاد"، ولولا أن بيانات النعي مكتوبة، لكان غَلَبَ عليهم الحزن فلطموا الخدود والصدور باعتبار "جبريل" من المحسوبين على إيران الولي الفقيه، وتحمس آخرون فشقوا ثيابهم وسكبوا دموعهم وصراخ عويلهم لا حدود له.
جبريل.. سيرة ذاتية دموية
ربما ليس علينا كثيراً أن نشرح من هو أحمد جبريل، فضحاياه كثر من الفلسطينيين والسوريين، وقد يكون بدأ جبريل حياته مناضلاً لأجل فلسطين ولكن جاء حافظ الأسد فحرف بوصلته، ويبدو أن أبو جهاد كان سهل الانحراف، فبقي على دين الأسد حتى قبض الله روحه.
ولد جبريل عام 1938 في قرية "يازور" الفلسطينية شرقي مدينة يافا، والمهجرة إبان إعلان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، فهُجر مع عائلته إلى سوريا وحصل على جنسيتها باعتبار أن والدته سورية بينما والده فلسطيني.
درس المرحلة الثانوية في دمشق، وحصل على شهادتها عام 1956، ثم التحق بالكلية الحربية في القاهرة، وتخرج فيها عام 1959، بعد تخرجه عمل ملازماً ثم ضابطاً في سلاح الهندسة بالجيش السوري، حتى طرد منه عام 1963 بسبب فضائح فساد حيث كان متهماً بسرقة الأسلحة وبيعها إلى أطراف أخرى.
في عام 1959 أسس جبريل "جبهة التحرير الفلسطينية" واتحدت جبهته مع حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، في 1965، لكن سرعان ما انفك الاتحاد، وأسس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" عام 1967.
ولم تطل التجربة الجديدة طويلاً، فسرعان ما انفصل عن الجبهة، وأسس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة"، في 1968، كحركة قومية يسارية أصبح أمينها العام لمدة 53 عاماً.
دفع جبريل كثيرا من شباب فلسطين وشاباتها إلى تنفيذ عمليات انتحارية، وعمليات اختطاف للجنود الإسرائيليين لمبادلتهم وقبض الثمن
دفع جبريل كثيرا من شباب فلسطين وشاباتها إلى تنفيذ عمليات انتحارية، وعمليات اختطاف للجنود الإسرائيليين لمبادلتهم وقبض الثمن، بتنسيق جبريل مع أجهزة استخبارية. منها عملية الخالصة، حيث قامت مجموعة من المنظمة تضم (سورياً وعراقياً وفلسطينياً) بالتسلل إلى مستعمرة كريات شمونة في الجليل الأعلى شهر نيسان 1974 واحتجزوا رهائن إسرائيليين وطالبوا بتحرير أسرى فلسطينيين، وعند المواجهة مع القوات الإسرائيلية قام المقاتلون الثلاثة بتفجير أنفسهم مع الرهائن بالأحزمة الناسفة، ما أدى إلى مقتل المقاتلين الثلاثة ومعهم نحو 20 إسرئيلياً وجرح 15 آخرين.
وكذلك عملية الجليل التي أسر فيها جبريل ثلاثة جنود إسرائيليين وطالب بمبادلتهم بأكثر من ألف فلسطيني منهم الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس.
ربما لن نجد في هذه السيرة ما يثير الشبهة النضالية، ولكن الشيطان يكمن في بعض التفاصيل، فقد توصل جبريل إلى أنه ليس مهماً تهيئة الكوادر الحزبية، بل الأهم إعدادها لتصبح وقوداً للثورة، حتى لو تمت التضحية بها (المهم انتصار الثورة على الإمبريالية)، وعلى إثر ذلك شرع في تطبيق أشد أنواع التدريبات العسكرية القائمة على التوحش لدرجة أن قيادات حركة "فتح" لم تتوافق مع رؤيته في العمل الثوري المجنونة، فابتعد عنها وشبك علاقاته مع أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية وفي مقدمتها "نظام حافظ الأسد".
وربما من المهم الإشارة إلى أنه قام بالتعاون مع حافظ الأسد في التخطيط لاغتيال ياسر عرفات عام 1966 بأحد البيوت السرية في دمشق، لكن أحدهم سرب العملية إلى عرفات فنجا.
توقف جبريل عن عملياته ضد "إسرائيل" وطوعه حافظ الأسد ليشارك عبر جبهته في حرب المخيمات الفلسطينية؛ حيث قصفها بالصواريخ والقذائف مع الميليشيات المسيحية اللبنانية قرابة الشهرين، ليكون عضواً أساسياً بين مرتكبي مجازر تل الزعتر وجسر الباشا وشاتيلا وبرج البراجنة التي ارتقى فيها عشرات آلاف المدنيين بالإضافة إلى النساء والأطفال من الشعب الفلسطيني ومسلمي لبنان.
أنشأ له معسكرات في عدة مناطق سورية باسم "جيش التحرير الفلسطيني" انخرط فيها الشباب الفلسطيني في الخدمة الإلزامية استخدمهم الأسد الأب في معاركه وعمليات الاغتيال التي نفذت بغالبيتها في لبنان
وتمت مكافئته من قبل حافظ الأسد فأنشأ له معسكرات في عدة مناطق سورية باسم "جيش التحرير الفلسطيني" انخرط فيها الشباب الفلسطيني في الخدمة الإلزامية استخدمهم الأسد الأب في معاركه وعمليات الاغتيال التي نفذت بغالبيتها في لبنان، ثم لاحق ياسر عرفات ومقاتليه بصحبة جيش الأسد إلى طرابلس عام 1983، ليخرج منها بعد معارك دامية مع آلاف المقاتلين والجرحى على متن سفينة يونانية بحماية البحرية الفرنسية نحو اليمن والسودان والجزائر.
وعلى مدار سنوات بقي جبريل يقوي جيشه الفلسطيني المصغر في سوريا، وكلف ابنه جهاد بالقيادة العسكرية للجبهة وتأمين السلاح، ليغتال في بيروت عام 2002 ويتهم جبريل "إسرائيل"، إلا أن كثيرا من المؤشرات تفيد أن نظام الأسد وميليشيا "حزب الله" اللبناني أرادوا إرسال رسالة لجبريل أن اللعب خارج الحدود المرسومة تؤدي إلى التهلكة!
جبريل ضد الثورة وفلسطين
خرج السوريون في الثورة السورية ضد بشار الأسد عام 2011 وكان الفلسطينيون السوريون جزءاً أصيلاً منها، ومع انتشار نقاط التظاهر على الخريطة السورية، وجه النظام جبريل لتحريك ميليشياته لقمع المتظاهرين في عدة مدن مثل حمص ودير الزور ودرعا، ومع دخول المخيمات الفلسطينية على خط الثورة بشكل مباشر بسبب الواقع الاجتماعي المشترك، بدأت ميليشيات جبريل باعتقال الفلسطينيين وزجهم في معتقلات الأسد إلى جانب السوريين، وأطلق الرصاص الحي على المتظاهرين في مخيم اليرموك والتضامن وسبينة والحجر الأسود في مناطق جنوب دمشق.
وبعد تحول الثورة إلى العسكرة وانشقاق بعض عناصر جيش التحرير الفلسطيني رغبة منهم في الدفاع عن أهلهم، إلى جانب حمل آخرين للسلاح واحتمائهم بمخيم اليرموك، حاصرت قوات الأسد وميليشيا جبريل المخيم وجوعت أهله إلى درجة أنهم أكلوا القطط والحشائش، ثم قصف سكانه بشتى أنواع الأسلحة على مرأى من العالم.
كما كان مخيم الرمل الجنوبي باللاذقية مشاركاً بقوة في الثورة السورية منذ بداياتها، فقادت ميليشيا جبريل ومخابرات الأسد حملات اعتقال موسعة طالت الآلاف، ثم حوصر المخيم وتم استهدافه بالمدافع والصواريخ من البر والبحر في حادثة هي الأولى من نوعها، ليتم اقتحامه فيما بعد.
وساهمت ميليشيا أحمد جبريل بشكل أساسي في قصف مخيمات الفلسطينيين في درعا وخان الشيح وريف حلب، ولاحقهم واعتقل الآلاف منهم، قتل كثيرا منهم تحت التعذيب.
وفي إحصائية موثقة لمجموعة العمل من أجل فلسطيني سوريا، فقد قتل نظام الأسد بمشاركة ميليشيا أحمد جبريل وإيران و"حزب الله" 4048 فلسطينياً سورياً عبر استخدام الرصاص الحي والقصف، بينهم 620 شهيداً تحت التعذيب في المعتقلات (منذ مارس 2011 حتى ديسمبر 2020).
ويوجد في سجون الأسد حتى اليوم 1797 معتقلاً فلسطينياً سورياً بينهم 110 نساء، و333 شخصاً في عداد المفقودين الذين لا يعرف ذووهم عنهم شيئاً، كان لميليشيا جبريل دور في ملاحقتهم.
كلمة أخيرة
ربما نعى بعضهم مجرم الحرب أحمد جبريل، في حين لعنه ويلعنه كثيرون، وقد قرأت عشرات المنشورات لفلسطينيي سوريا وقد فرحوا لهلاكه، في الوقت الذي يدافع آخرون عنه تناسوا جرائمه بحق أهلهم وشعبهم الفلسطيني، لكن المهم بالنسبة لنا كسوريين فلسطينيين ألا نسمح بتزوير التاريخ وقد كنا شهوداً عليه، ونرفع أصواتنا عالياً أن أمثال أحمد جبريل هم مجرمو حرب وسفاحون وممتطوا قضايا عادلة، تغطوا بعلم فلسطين ومسلسل الممانعة والمقاومة لمآربهم الشخصية وأرباحهم الذاتية وقد قتلوا من أبناء فلسطين وسوريا ولبنان أكثر مما فعلته "إسرائيل" بهم، وكل جرائم جبريل والنظام السوري وحزب الله وإيران هي إن لم تكن خدمة لدولة الاحتلال؛ فهي بالتأكيد ليست لمصلحة القضية إنما لمشاريعهم وخططهم ومكاسبهم.