"بين حبال الماء" رواية تستمد أحداثها من واقع يغرق بالمتغيرات، يعلو بالفرد إلى قمة موجة تارة ويطيح به في قعر البحر تارة أخرى. يملأ رصيدك بالمال تارة ويرمي بك في حضن الإفلاس تارة أخرى. تتحكم فيه قوى المال كما تتحكم به قوى الاستبداد والتسلط، فإما أن تتماشى مع قيم المال والأعمال وإما أن تكون أحد ضحاياها. لا مجال لأن تكون فرداً ذا إرادة حرة وصاحب فكر إنساني يتألم لمشاهد الظلم، وبقدر ما حاولت الرواية إظهار الشخصية الرئيسة فيها على أنها شخص يسعى إلى تحقيق حلم خاص جداً يتمثل بصناعة فلم سينمائي ولا علاقة له بالسياسات والقوى السياسية المتصارعة بقدر ما تقاطع هذا الشخص مع الواقع وانغمس فيه حد الفجيعة.
تقدم لنا الرواية شخصية "تموز" الطفل الذي عشق السينما منذ نعومة أظفاره حيث لعب جده دوراً أساسياً في تكوين شخصيته وحبه للسينما لدرجة أن حلمه الوحيد بات أن يكون صانع أفلام. وعاش حياته يحلم بدراسة السينما بداية في كوبا ثم في لندن ثم اتخذه القرار النهائي بالعودة إلى سوريا بعدما آمن أنها هي حصراً أرض الأفلام وذلك مع بداية الثورة.
ولأجل تحقيق الحلم لابد من العمل في الإمارات بضع سنين يجمع فيها مبلغاً من المال يمكنه من الدراسة فيما بعد، وفي الإمارات يعيش تلك العلاقة بين المال وضحاياه بداية في المطاعم المشهورة عالمياً، ثم في شركات الهواتف والاتصالات حيث يصل إلى مراتب عليا في شركتين عالميتين. خلال هذه المرحلة نراه يعيش الحياة بكل ما أوتي من قوة حيث الحبيبات والخمور الفارهة والسفر إلى عواصم العالم لعقد الصفقات، لكنه في كل ذلك كان يعاين الفقر وسحق العمالة واستغلال النساء بأبشع الطرق ويمد يد العون للمحتاج دائماً.
ولأنه مهووس حقيقي بمشاهدة الأفلام، نراه دائماً وأبدا يطابق أو يشابه نفسه بشخصية من هذا الفلم أو ذاك ويستشهد بحوارات وأقوال من هذا الفلم أو ذاك، وهذا تحديداً ما أبقى جذوة الحلم في داخله مشتعلة، إلى أن بدأت أحداث الثورة السورية بالتحول جهة السلاح وبدأ الدمار والقتل يجتاح البلاد فقرر أن يشتري ما يلزمه لصناعة فلمه وحزم حقائبه وعاد إلى سوريا.
إنه الفتى السوري تموز الذي يعكس إلى حد ما جانباً من تلك الأسطورة السومرية المغرقة في القدم والتي جمعت بين عشيقين (عشتار ـ ديموزي) والتي أنتجت فيما بعد دورة الفصول
لم يتعمد مُخرِجاً سينمائياً في كنيسة أكاديمية، ولم يتتلمذ على يد شيخ سينمائي، لكنه استطاع أن يغوص في لجج الماء ويختبر كل دروب الآلام والأحلام ليخرج لنا بثلاث سكريبتات لثلاثة أفلام تختصر بضع سنوات في أرض الأفلام (سوريا). إنه الفتى السوري تموز الذي يعكس إلى حد ما جانباً من تلك الأسطورة السومرية المغرقة في القدم والتي جمعت بين عشيقين (عشتار ـ ديموزي) والتي أنتجت فيما بعد دورة الفصول المتعلقة بالدورة الزراعية السنوية. ومثلما يغيب ديموزي في العالم السفلي ستة شهور ليعود من جديد فيبدأ الربيع الذي نحتفل بعيده كل عام. كذلك نرى الراوي (تموز) يعيش تقلبات الماء يغور في الأرض حيناً وينبثق منها حيناً آخر في مقاربة ذكية من الكاتبة روزا ياسين بين الشخصيتين، لكن الواقع اليوم في الداخل السوري وكذلك الواقع السردي داخل الرواية يختلفان جذرياً عن واقع الآلهة السومرية فإذا كانت ضرورات الحياة والموت في الواقع القديم قد أنتجت تناوباً عادلاً بين الحياة والموت فإن الواقع السردي الذي يعكس الواقع اليومي للحياة في سوريا لم يُنتج غير القتل والدمار والتهجير القسري.
في سوريا يلتقي مع صديقه المتمرد من أيام "يوسف الماوردي" في ريف دمشق وينتقل معه إلى الغوطة فقد ترك يوسف دمشق بعد أن قُتل معظم أصدقائه في المظاهرات السلمية، لم يصرّح تموز بأفكاره الخاصة أمام أحد من أصدقائه الجدد خاصة فيما يتعلق بعسكرة الثورة ولم يحمل سلاحاً لكنه كان يرافقهم في المظاهرات وفي العمليات العسكرية حاملاً كاميرته يعيش معهم أينما ذهبوا. إلى هنا يتوقف سرد الأحداث الراهنة في الرواية لينعطف السرد على لسان الراوي (تموز) إلى الذاكرة حيث يبدأ الحديث بقوله (اليوم حين أتذكر السنوات الثلاث التي مرت عليّ في بلدي) فبعد مضي هذه السنوات يسترجع تموز ما عاشه في ريف حماة حيث يجتاز نهر العاصي ويرى الهيلوكوبترات ترمي البراميل ويتصور في ذهنه صوت العقيد وهو يأمر الجنود
(أحرقوا كل شيء حتى الماء) وهو يسمع موسيقا فاغنر في مطابقة بين الواقع والفلم الأميركي "شبكة NETWORK" لكن هذا ليس نهر (النونج) في فيتنام وإنما نهر العاصي في حماة، كذلك يحدث الأمر في ريف حلب في منطقة اعزاز حيث يعيش ورفاقه تحت القصف ويرى بعينيه كيف تحرق الطائرات الزرع والبشر وتدمر البيوت ولم يختلف الأمر كثيراً في ريف إدلب وعندما يفقد أعز صديق في هذه الرحلة ويُصاب إصابة بليغة إثر قصف مدمر يقرر الخروج من سوريا وهنا نعيش رحلة جديدة من رحلات التهريب والتجارة بالبشر وخوض البحر بالبلم.
في البحر وكما حدث مع الآلاف يتكرر الأمر معه أيضاً حيث يغرق القارب وعلى متنه قرابة مئتي إنسان وفي مثل هذه اللحظات يكون الناس بأشد الحاجة لمد يد العون وتموز الذي عشنا معه الكثير من الحالات الإنسانية والتعاطف مع المسحوقين من البشر نراه يتفلت بكل شراسة من امرأة تحمل طفلها وتتشبث به لينقذهما من موت محقق، وفي هذه الواقعة يفقد حقيبته والهارد الذي يحمل كل وثائقه التصويرية، يحاول عبثاً البحث عنه لكنه يُصاب بالإعياء ويجد من ينقذه ليجلس على الشواطئ اليونانية يبكي ويصف نفسه بالقاتل فقد كان بمقدوره إنقاذ الطفل وأمه.
ولا ندري هل يدل هذا السلوك على خلل في بناء الشخصية أم أن الإنسان في مثل هذه اللحظات يعيش بغرائزه التي تدفعه لأن يفعل أي شيء في سبيل البقاء. وفي لحظة ضعف يقرر فيها الانتحار تنقذه السينما بمشهد لعشيقين يتطارحان الغرام فيعدل عن قراره. ويبقى هذا الكائن سينمائياً لآخر لحظة في حياته فقد عمدت الكاتبة إلى الاستشهاد بثلاثة وأربعين فلماً يتماهى تموز مع شخصياتها بحسب اللحظة التي يعيشها.