يأتي اسم الفنان التشكيلي السوري محمود شيخاني في قائمة طويلة تضم أسماء عشرات الفنانين صنعوا تاريخ الحركة التشكيلية في مدينة حمص، منذ جيل الآباء المؤسسين (صبحي شعيب وأحمد دراق السباعي ومصطفى بستنجي) حتى آخر العنقود الفني. إن حضور الإبداع التشكيلي في حمص خلق خطا موازيا لحضور الإبداع الشعري المشهور في المدينة، فحمص كما نقول دائما هي أيضا مدينة الفن التشكيلي وليست فقط مدينة الشعراء.
حمص المدينة المعروفة بأنها كانت عاصمة النكتة السورية، صارت عاصمة (النكبة) والحزن. وقد نال الفنان محمود شيخاني كغيره نصيبه من هذه النكبة والخراب الشامل، فقد تمّ إحراق مرسمه وبعض أعماله بعد نهبه وسرقة لوحاته المهمة التي لم يعد يملك الآن منها سوى صور رقمية يستعيدها بين حين وآخر ليعيد الشغل في بعضها ويجدد بعضها الآخر كليا حتى لتبدو لوحات جديدة متوائمة مع وضعه الجديد.
ربما لم يرسم محمود أماكن المدينة كثيرا كما قد فعل زملاؤه، وذلك أمر طبيعي عائد لاختلاف زاوية النظر فنيا، لكنه كان ابنا لباحث حمصي هو الراحل فيصل شيخاني الذي ترك عددا من الكتب معظمها يدور حول تاريخ وأعلام المدينة. ليكمل محمود رحلة العطاء على صعيد مختلف هو التشكيل.
مرت أعماله الفنية بعدة أنماط وأساليب تشكيلية، مما يعكس نزوعا مشروعا ومندفعا لديه نحو تجريب أكثر من تقنية فنية حسب ما تمليه مراحل التطور والنضوج واختلاف المكان والثقافة، بما في ذلك ظروف حياته التي استقرت به أخيرا ليجد نفسه في وسط العاصمة برلين.
يحمل محمود في ذاكرته درسا تلقّاه –هو ومجموعة من زملاء المرحلة والدراسة– من الفنان الرائد أحمد دراق السباعي المعروف بأنه كان مبدعا (على الفطرة) كما نقول عادةً. وفطريته وجّهته إلى التركيز في شغله على طرائق تفكير الأطفال وكيفية تعبيرهم البدائية العفوية المتحررة من القواعد، فدراق السباعي وظّف في رسمه خطوط وتشكيلات الأطفال ونقل عنهم حسّهم الغريزيّ باللون والجمال من غير مدارس ولا نظريات نقدية. ذلك الدرس ملخّصه في أن أحمد دراق السباعي كان يقول للفنانين في أثناء حواره وملاحظاته معهم: "ارسموا ومزقوا. لا تخافوا من جعلكة الورقة ورميها. مزقوها فسوف ترسمون أفضل منها". وهذا الدرس يشبه تماما عملية تمزيق القصائد للبدء من جديد، والغاية من ذلك بطبيعة الحال هو التجريب والمحاولة والاجتهاد الدؤوب بلا كلل حتى الوصول إلى مرحلة النضج والإتقان.
على أن عفوية الأطفال وبراءتهم لا تعني عدم وعي المسألة الفنية ومقاصدها عند الفنان، فالأمر لا يعني تقليدا لخط ولون الطفل بقدر ما تعني استخلاص الدرس الرئيسي من رؤية الطفولة للون والرسم. لهذا فإن عفوية محمود وغيره لا تفضي إلى عشوائية في العمل بل هي قائمة على لحظة إدراكٍ ومعرفةٍ.
من هنا نرى أن تجربة محمود التشكيلية مرت بمراحل متعددة، من الواقعية والطبيعة الصامتة وصولا إلى تجريب التعبيرية والتجريد في ألمانيا مرورا بتقنية الديجتال –التي استعادها فيما بعد أيضاً– والاستناد إلى موديل واقعيّ في الرسم على عادة أهل الفنّ التشكيلي رسما ونحتا. وفي جميع تلك المراحل لم يكن يرسم إلا مندفعا بشغفٍ جامح للرسم. ربما كما يندفع الطفل في تشكيل وتغيير ألوانه ومستمعا بذلك بالدرجة الأولى.
كانت الطبيعة الصامتة تشكل عنده نقطة جذب كمعظم من مارس هذا الشكل من التشكيل، وهو يريد أن يقدم حتى الطبيعة الصامتة بصورة مختلفة نوعا ما، فكان يزيحُ الطبيعة الصامتة عن واقعيتها الحرفية ليغير في عناصرها الواقعية، فيعطي مثلا حجما أكبر فنيا للعنصر الواقعيّ معتمدا على إحساسه الخاص بالشكل واللون بحيث يتحرك وفق رغبته في تعديل الواقع ليلائم انفعاله ومهارته الفنية الذاتية.
ولأن الواقعية في التشكيل لا تتطلب إعمال الخيال كثيرا، فسوف لن تعتمد هذه الأسلوبية على اللاشعور، أي ليس هناك طبيعة صامتة تحمل دافعا لاشعوريا أو لاواعيا، فاللاشعور مرتبط هو الآخر كثيرا بنشاط الخيال، وذلك على عكس ما آلت إليه تجربته الآن في مرحلة تجريب التعبيرية حيث تتيح هذه الأخيرة للاشعور أن يتدخل في عمل الفنان وقد ينبثق العمل كله من منطقة اللاشعور باستعانة كبيرة وأساسية من المخيلة والخيال.
وبحسب شيخاني فإنه "من غير قصد أتركُ اللاشعور يتدخل في تشكيل اللوحة، وطبعا اللاشعور له إرادةٌ، ولا أدري متى يتجلى ويحضر، إنه مثل الوحي بالنسبة للشعر".
ولكن معنى (الوحي) تطور لدى الفنان والشاعر في العصر الحديث، فلم يعد مفيدا أن نفهم منه هبوط الإلهام على فنان كسولٍ متقاعسٍ غير ذي خبرة وثقافة ورؤية، لذا فإن لوحات شيخاني ليست إلا نتاج شخصية تتعب في كيفية التعامل مع الوحي وتدير العلاقة مع الإلهام بأسلوبٍ يبرز فيه الوعي والقصد والثقافة إلى جانب ما يتمتع به الفنان بصورة عامة من حساسية خاصة وفهمٍ وجدانيّ لأشياء وأفكار وخطوط عمله التشكيلي.
يعتقد شيخاني أن الأطفال كلهم فنانون، ونحن نفسدهم بإخضاعهم للتعليمات والتوجيهات، لذلك علينا تأمين الأدوات والألوان للطفل من غير أن نعطيه ملاحظات ونصائح. ويرى أنه من خلال رسم الطفل قد تكتشف شخصية أبيه وأمه وشكل العلاقة فيما بينهم. فالطفل يرسم أهله حسب رأيه في كل واحد منهم.
ومن هنا يمكن الحديث عن حرية الأطفال وفطريتهم وصلة ذلك بالرسم (التجريديّ)، الذي هو عودة إلى براءة الطفولة ورؤيتها، فالطفل لا يرسم واقعا تفصيليا بل يرسم خطوطاً وقد تصبح الخطوط أشبه برموز مجردة. وقد اشتغل محمود شيخاني على التجريد استجابة لطبيعة تطور تجربته الفنية، واستجابة أيضا للواقع الجديد الذي وجد نفسه فيه، لكنه يفرق بين التجريد كفنّ عظيم واللهو المجاني الذي يسيء للفنّ، وهو معجب بالتجريديّ الفنان باول كلي الذي يفه بأستاذ ولكن كم واحد يمكن أن يكون مثله؟
لا يجلس شيخاني بانتظار الإلهام بصورة تقليدية، بل يتحرش به ويذهب إليه ويقيم معه صلة يسيطر فيها عليه ويحدد له شكل التعاطي مع اللون والمفردات التشكيلية. وحين يشعر أن اللوحة التي بين يديه لم تعد تعطي إمكانيات للقراءة الجديدة فإنه يتوقف، أي أنه بمعنى آخر ينهي جلسة الوحي ويعطيه موعدا آخر...
كما تمت الإشارة سابقا إلى أن ألوانه تغيرت وتقنياته كذلك حسب المكان الذي يعيش فيه، خاصة تلك النقلة النوعية الحاسمة في حياته حين استقرت به رحلة التهجير واللجوء في ألمانيا (برلين).
فقد كان سابقا يستعمل تدرجات اللون برماديته. كانت ألوانه كما قال لي بالعامية (مطفيّة) أي منطفئة، أو مطفأة، ولأسباب ضاغطة عليه وقاهرة تغيرت هذه الألوان (المطفية) وشعر أنه بحاجة للصراخ فبدأ مرحلة جديدة من الألوان التي يصفها بالجريئة، ويقصد بها أنها صارت ألوانا أكثر وضوحا وحدة وسطوعاً.
وفي سياق مرحلته الجديدة بات مقتنعا بأن القادر على رسم (الواقعي) سيكون حكما قادرا على (التعبيري) (والتجريد) كونهما من فعاليات الفن الحديث. إذ لا بدّ أولا من (التأسيس) ثم لنجرب وننطلق في أي مجال إبداعي حديث وما بعد حديث. وبهذا صار يشعر بأنه حرّ أكثر، ولم يعد منطق اللوحة عنده هو المهمّ بل صار لكل لوحة منطقها الخاص. لكنه شعر بحاجة إلى (تسمية) اللوحة، حيث لم يكن يؤمن بأهمية ذلك سابقا، ولكن مع خوضه التقنية الحديثة من تجريد وتعبيرٍ أحسّ بأن إعطاء اللوحة اسما ما سوف يكون مفتاحا يساعد المشاهد على التعامل مع التشكيل البصري الذي أمامه. خاصة وأن التشكيل الحديث وما بعد الحديث بات خاليا إلى حدّ كبير من الفكرة أو الموضوع أو المنطقِ المباشر. وبطبيعة الحال فإن تسمية اللوحة ليس أمر جديدا فمعظم الفنانين في العالم يطلقون على لوحاتهم أسماء اشتهرت بها.
ومن ضمن مرحلة الحداثة والتجريب فقد ركز محمود أكثر على تقنية (الديجيتال) في الرسم، مما ذكرنا بتجربة الفنان الراحل بسام جبيلي الذي قدم معرضا كاملا بتقنية (الديجيتال)، معتمدا فيه على استعمال اللون المتحرك تشكيليا، أو تحريك اللون وتبدلاته. وما فعله محمود أنه اشتغل اللوحة كلها بهذه التقنية وليس فقط تحريك اللون، أي أنه استعمل الديجيتال لإنجاز كل عناصر اللوحة. وتستدعي تقنية الديجتال فكرة الزمن وعلاقته باللوحة، فزمن اللوحة ثابتٌ، والتقنية هذه بحاجة إلى تحريك اللون، أي تحريك الزمن، ولكن ليس على نموذج تحريك زمن الصورة في فيلم سينمائي، ففي السينما يتم ذلك بصورة مستمرة، بينما على الفنان في اللوحة التوازن بين ثبات الزمن وحركة اللون. علما أن محمود شيخاني كان قد مارس تقنية الديجيتال منذ سنة 2001 حيث قدم معرضا هو الأول من نوعه في سويا كما يقول. لكنه عاد إلى هذا النمط مجددا ليعطيه حيزا أوسع.
ولا يمكن إلا الإشارة إلى تلك الفروق الكبيرة بين مرحلة حمص وبرلين حتى على الصعيد الشخصي والخاص إضافة لتعاطي الناس معه كفنان، فقد انتهت مرحلة حمص بإحراق لوحاته وتخريب مرسمه، ووجد نفسه في برلين أمام نقطة بداية تشبه البداية من الصفر كليا في كل شيء. في برلين لن يجد زملاء الدراسة التاريخيين الذين كان يرسم معهم في الطبيعة، ثم يلتقون في مكان ما للحوار والنقاش وتوجيه الانتقادات الحادة من غير مجاملات، في برلين سوف يتعرف على عائلة ألمانية تتفهم خصوصيته كفنان تشكيليّ مهجّر لاجئ، فتقوم بتقديم العون بمنتهى النبل والحضارة له. لقد أعلنوا عن حملة تبرعات على فيس بوك ليجمعوا له مساعدات من ألمانٍ ساعدته في تأمين المواد الأولية له كفنان تشكيلي. وذلك من غير أن يكون له علم بذلك، وقدموا له ذلك هديةً تليق بهم كألمان وتليق به كفنان مبدع في ظرفٍ قاهر.
وكما كان في حمص يستمع للموسيقى الكلاسيكية دائما، فهو يستمر في ذلك في برلين، من حيث أن الموسيقى تساعده حتى في أثناء الرسم على تأمين مناخٍ ملائم للإبداع من هدوء نفسيّ وارتياح، وتحقق له عزلة من غير أن يفكر بمضمون الموسيقى، حتى لو كانت موسيقى تثير الصخب والغضب وضربات القلب مثل سيمفونية بتهوفن الخامسة، فإنها إذا كانت خلفية مرافقة له وهو يعمل فإنها قد تعطيه دافعا وتكسر له الرتابة وتعطيه هزّة ما، يوظفها في أثناء العمل. ويعتبر ذلك نوعا من المنشّط وليس بالضرورة أن تغير في خصوصية اللوحة نفسها، أي أنه لا يستمد من العمل الموسيقيّ مفرداتٍ تشكيلية، وذلك على عكسي ما فعل الفنان التشكيلي فاتح المدرس في حوار مع الناقد والموسيقيّ د. سعد الله آغا القلعة، حين اتفق الاثنان على موضوع (البادية) فقام سعد الله بعزف فكرة البادية على القانون، في الوقت نفسه كان الدرس يرسم البادية على اللوحة! أما شيخاني فلا يريد أن تكون الموسيقى هي الأساس في العمل التشكيلي. مع أن محمود جرب في وقت ما التعلم على آلة العود، لكنه فشل في ذلك، لهذا رسم لوحات قليلة فيها موضوعات موسيقية فقد رسم نفسه مثلا وهو يعزف على تلك الآلة!
أما عمّا جرى في سوريا وتأثير ذلك على عمله، فمحمود يرى أن ما حدث كان أكبر من قدرة الفنان على التعبير، مع ذلك فقد رسم لوحة وظف فيها مرحلة لجوئه في ألمانيا، جعل فيها رموزا فنية وأدبية ألمانية، ورسم وجهه هو مقلوبا ليعبر ربما عن الانقلاب الجذري في حياته كسوريّ وكفنان في الوقت نفسه. لقد انقلبت الأشياء وبدلا من رؤية ألمانيا بثقافتها وفنها ونحن أشخاص أسوياء طبيعيون، اضطررنا لرؤيتها ونحن مقلوبون مضطربون.
آخر ما أنجزه محمود خلال وجوده في برلين تقديم معرضين (2017-2018) كان البارز فيهما أن المساهمين الألمان قاموا بتصوير لوحاته المسروقة في حمص وقدموها بالأبيض والأسود ضمن فكرة (مفقود ومولود) أي ما تم فقده تمت ولادته من جديد بشكل أو بآخر تأكيدا على ضرورة وجود هذه اللوحات وتذكير الآخرين بها رغم سرقتها. وقد قدم محمود أيضا في المعرضين عددا من أعماله التي أنجزها في برلين.
بطاقة تعريف
- محمود شيخاني فنان تشكيلي (سوريا، حمص 1953).
- خريج كلية الفنون الجميلة – جامعة دمشق 1977
- معرض تجمع أصدقاء الطبيعة) 1972 – معرض العشرة للفنانين الشباب دمشق 1980 – معرض صيف 86 للرسم عن الطبيعة – معرض متجول لعشرة فنانين 1992 – معرض متجول في عدة مدن في السويد 1993 – معرض فردي (ديجيتال آرت) 2001 – معرض عشرة فناين في لبنان 2004
- كما قدم معارض فردية في أعوام 1997-2007-2008-2010
- وأخيرا معرضان فرديان في برلين 2017-2018