بدت مكانة أفغانستان عبر التاريخ الحديث مهمّة بشكل جليّ في السياسة التركية، حيث وردت أحاديث بين جنبات قصر يلدز في عهد السلطان عبد الحميد الثاني عن تنافس الراج البريطاني في الهند مع كل من روسيا القيصرية والصين في تلك الأراضي المركزية.
وصف أحد قرناء (مستشاري) السلطان إنكلترا بأنّها ليس دولة برية لذلك فهي في حاجة دومًا لاستخدام جمع من "فضلات عساكر العجم" [يقصد الهند] في سياق الحروب والمناوشات البريطانية الأفغانية في القرن التاسع عشر. كما جاء الكلام عن مساعي روسيا لإنشاء سكك الحديد في قلب أفغانستان، وغيرها من التفاصيل التي بيّنت تصارع الدول في تلك الحقبة على تقاسم السيطرة في أفغانستان.
يبدو أن شهر آب سيكون حافلًا في مقالتنا هذه، إذ أُعلن في الحادي والثلاثين منه خروج القوات الأميركية من أفغانستان، واعتُبر الثامن من هذا الشهر عام 1919 يوم استقلال أفغانستان على يد أمان الله خان إثر الحرب الأفغانية الإنكليزية الثالثة، وعُيّن في الشهر المذكور عام 1920 الضابط التركي عبد الرحمن صمدان، أول ممثل لمجلس تركيا الوطني الكبير في أفغانستان، وهو أفغانيّ الأصل، كما يأتي في منتهى آب احتفال الجمهورية التركية بعيد النصر.
ابتُدأت العلاقات التركية الأفغانية بمصير متشابه تقريبًا حيث التقى وفديّ كل من مجلس تركيا الوطني الكبير بزعامة وزير التعليم الدكتور رضا نور ووزير الاقتصاد يوسف كمال مع ممثل إمارة أفغانستان الجنرال محمد ولي خان في موسكو نتاج إرادة حل كلا الطرفين بعض الأمور الدبلوماسية والسياسية والحدودية مع الجمهورية السوفيتية الناشئة.
هكذا كانت إمارة أفغانستان أول دولة إسلامية تعترف بمجلس تركيا المذكور مع عقد "اتفاقية الصداقة والعمل المشترك التركية الأفغانية" في الأول من آذار عام 1921، حتى أن نتيجة هذه المحادثات سبقت توقيع اتفاقية موسكو مع السوفييت في السادس عشر من الشهر المذكور.
احتوت هذه المعاهدة على مواد عشرة، أكّدت على قيمة الاستقلال ومحاربة العدو والاعتراف بإسلامية كلا الدولتين، أو لنقل استثمار هذه القيمة في مواجهة عدو استعماري إمبريالي مشترك، بدا أنّه الإنكليز، وتأسيس حلف ما مع الروس لتحقيق توازن في هذا الإطار.
كما أكّدت على الدفاع المشترك، والتبادل الثقافي والتجاري والتعليمي، وركّزت على موضوع إرسال تركيا المعلمين والضباط في المعاهدة المذكورة لمدة لا تقل عن خمس سنوات إلى أفغانستان، وتجديد المدّة إن هي أرادت، كما ورد في المادة الثامنة منها.
وبينما تنال أفغانستان استقلالها عام 1919 يشرع مصطفى كمال بحروب الاستقلال، وقبيل إعلان الجمهورية التركية عام 1923، أي في عام 1922 تُرفع ممثلية تركيا في أفغانستان إلى سفارة ليُعين في السادس والعشرين من حزيران مدافع المدينة المنورة السابق فخر الدين باشا (فخري باشا) كأول سفير يمثل مجلس تركيا الوطني في كابل.
أي أن فخري باشا سيستمر سفيرًا ضمن فترة حكم أمان الله خان قبيل إعلانه تحويل الإمارة إلى مملكة أفغانستان عام 1926، لتجمعه صداقة شهيرة به، وليكون بذلك صاحب دور مهم في تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين إمارة أفغانستان الناشئة والجمهورية التركية الجديدة، ووفق الاتفاقية الموقعة في العام السابق لتولي فخري باشا سفارته، سيسهم في قضايا كالتعليم ومحاولات نقل أمان الله خان مظاهر التحديث التي قام بها مصطفى كمال، والمولودة عبر قرن من الزمان حينها لدى العثمانيين.
لا شكّ أن مصطفى كمال قائد مهم في صفوف الجيش العثماني، وتسارع في اكتساب شهرته مع الانتصارات التالية، رغم هذا فلا يمكن إغفال قادة لهم شهرة وسمعة عسكرية كبيرة وانتصارات على أكثر من جبهة، كون ظروف تلك الفترة شهدت العديد من الحروب، منهم على سبيل التمثيل أحمد عزت باشا في جبهتي اليمن والبلقان، وفخر الدين باشا حاكم المدينة العسكري المنسحب مكرهًا من إحدى أهمّ جبهات الحرب العالمية الأخيرة عام 1919.
تباعًا لذلك واجه فخري باشا مجلس تركيا الوطني بانتقادات قد تكون هي التي أدّت بشكل أو بآخر قيام رئيس المجلس مصطفى كمال بتوليته منصب سفير أفغانستان، لإبعاده؟. حتى قبيل تأسيس الجمهورية، لم يكن فخري باشا من جناح الاتحاديين المعادين للكمالية، لذلك فإن أتاتورك أراد بمثل هذه الخطوة، أي مد جسور العلاقات الممكنة مع أفغانستان ثم تولية فخري باشا؛ العزف على أكثر من وتر سياسيّ.
تنتهي وظيفة فخري باشا الدبلوماسية بأفغانستان في أيار 1926، ولكنه يعود في تاريخ 24 أيلول 1934، برتبة فريق أول حينما كان مفتش الجيش الأول، حكمًا مع هيئة عسكرية وهندسية تركية لحلّ مشكلة الحدود الناشئة بين أفغانستان وإيران
أي أنّه أراد التخلص من نَفَسِ معارضٍ لقائدٍ مُهم، أضف لذلك توجيه سياسة تركية فاعلة لمواجهة زعيمي الاتحاديين المعادين للكمالية، أنور باشا وجمال باشا، بالأخص تقويض أنشطتهما في أسيا الوسطى بعد هروبها نتاج "ما اقترفت يداهما من قرار الاشتراك في الحرب العالمية الأولى"، تحقيق تعاون روسي تركي لمواجهة إنكلتره والاستفادة من روح ثورة العشرين 1920 العراقية ضد الإنكليز.
ولا يمكن نسيان أن جمهورية روسيا السوفيتية، جمهورية ناهضة لها مصير مشابه للتركية، يشهد على هذا مثلًا رفد مصطفى كمال تأسيس "حزب تركيا الاشتراكي" نيلًا لمساعدات الروس ودغدغة لمشاعرهم وامتصاص أي مد اشتراكي لصالحه في الأناضول.
لا يمكن نسيان أن فخر الدين باشا العدو اللدود للإنكليز في جبهة الحجاز، لذلك أراد مصطفى كمال مناوشة الإنكليز من خلاله، وبالفعل أثار تعيينه بلبلة لديهم. صدر قرار إعطاء مصاريف الطريق إلى أفغانستان لفخري باشا وضباط الهيئة الدبلوماسية التي معه في تاريخ 26 نيسان/ أبريل عام 1922.
وصل فخري باشا في أيار 1922 (رمضان 1340) إلى هرات واستُقبل من وُجهائها وعلمائها وطلاب علمها وأهلها، وبالتأكيد واليها الذي قال له:"يومنا اليوم عيد، ولو سنفطر فيه، ما أذنبنا!"، وبحسب صحيفة "أفغان الإسلامية" خُطب في موضع ضريح "ملّا جامي" بالحشد خطبة عصماء مكلّلة بمديح منجزات الترك وترحيبًا بالوفد القادم. ونُقلت بالطبع هذه الأخبار للصحافة التركية.
في حزيران وصل فخري باشا إلى كابل، وأجريت المراسم ذاتها من عزف الموسيقى وحفلات الطعام واستقبال العامة والخاصة للوفد التركي، وبيّن الأمير أمان الله خان في خطابه دونما استيقاف لدموع الفرح والحزن معًا أن "تركيا هي مفتاح نجاة الشرق".
بعد عام من توليته يبدو أنّه لم يكن يطيق الحياة الدبلوماسية كضابط إذ بعث في آذار من عام 1923 إلى القائد الشهير فوزي تشقمق باشا بقوله:"في حقيقة الأمر، لم استسغ الحياة الدبلوماسية، وأنا أشتاق لأيامنا العسكرية الأولى في كل حين".
وقبل ذلك في رسالة أخرى بتاريخ 21 تشرين الأول 1922 يهنّئ فيها مصطفى كمال بعيد النصر (30 آب) وبعدها بأيام تحريره لإزمير، أي بعد أربعة أشهر من توليته، أشار بحزنه أنّه بعيد عن الوطن ولم يكن بمقدوره المشاركة في احتفالات تركيا، كما يلاحظ أن رسالته حتى كانت متأخرة مما يحتمل أن خبر النصر وصله متأخرًا، وكأنّه يشتكي تحييده وعدم وجود دور له "كقائد كبير" بين قيادات الأناضول آنذاك.
تنتهي وظيفة فخري باشا الدبلوماسية بأفغانستان في أيار 1926، ولكنه يعود في تاريخ 24 أيلول 1934، برتبة فريق أول حينما كان مفتش الجيش الأول، حكمًا مع هيئة عسكرية وهندسية تركية لحلّ مشكلة الحدود الناشئة بين أفغانستان وإيران بقرار من رئيس الجمهورية أتاتورك.
بعد ذلك يمكن الحديث عن كون أفغانستان من أوائل الدول الإسلامية التي عززّت علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية التركية، ففي عام 1927 يقوم محمد ولي خان (الذي كان طرفًا في توقيع أول معاهدة علاقات بين الدولتين آنفًا) كوزير لخارجية أفغانستان بزيارته لتركيا، ويستقبله أتاتورك في قصر الحداثة العثماني "دولمابهتشه"، بعدها بعام (1928) يصبح أمان الله خان أول زعيم إسلامي يزو تركيا بصفته ملكًا.