أبي والمستعمر ونظام البعث

2024.04.30 | 06:04 دمشق

آخر تحديث: 30.04.2024 | 06:04 دمشق

544444444444444
+A
حجم الخط
-A

لم نكن في أسرتي نحتفي بيوم الجلاء، ولم نعده يوما مناسبة وطنية، ومع كل الأزمات التي عاشتها سوريا في ظل الاستعمار الفرنسي وهي كثيرة ومهينة، إلا أننا كنا نجدها إذا ما قورنت بالويلات الكارثية التي نعيشها في ظل حكم عصابات البعث، لا تعدو عن عبث الأطفال.

كل هذا مرده لأمر لا أنساه ما حييت، فقد كنت أسمع أبي طيلة أربعين سنة يدعو عقب تلاوة سورة الكهف في كل يوم جمعة، بعودة فرنسا لحكم سوريا، بدل هذه المافيات الوطنية التي لا تشبع من نهب الثروات وإذلال السوريين.

نعم تحتاج الشعوب على مخلف تنوعها إلى أساطير وحكايات، تروي بطولات الأسلاف، وتوهم عامة الناس أنهم على خطى هؤلاء الأسلاف، للمجد لا محالة سائرون، ونحن -السوريين- نتجاهل عن عمد أن الجلاء لم يكن إلا كارثة علينا، مع أننا نعلم أن الاستقلال ما كان له أن يتم لولا كوارث الحرب العالمية الثانية التي دمرت الجيش الفرنسي وغيره من الجيوش، وصارت كلفة بقاء فرنسا في سوريا أقوى من قدرتها على احتمال الكلفة.

لم نقرأ في تاريخنا المعاصر عن ديكتاتور تم التخلص منه دون أن يحيل البلاد إلى ركام مريع من الدمار البشري والعمراني.

بالتأكيد معظمنا يعلم أن الاحتلال الفرنسي قتل خلال انتدابه على سوريا مدة ست وعشرين سنة ما يقارب خمسة آلاف سوري والشطر الأكبر منهم كانوا من الثوار المقاومين، وهذا الرقم كبير ومؤشر على جريمة إنسانية فظيعة بلا أدنى شك، لكن ماذا سنتحدث لأولادنا حين يعرفون أن الحكم (الوطني) البعثي، قتل عشرات الآلاف في مدينة حماة وحدها خلال عشرة أيام وحسب، والشطر الأكبر من القتلى كانوا من الأطفال والنساء والشيوخ، سيعلمون يومها ما عرفناه متأخرين ذلك الفارق الشاسع بين المحتل الفرنسي والمحتل (الوطني)، وكلاهما شر، إلا أن بعض الشر أهون من بعض، وقد كرر التاريخ مرارا أن المحتل الأجنبي لا محالة إلى زوال، وأنه يترك خلفه أشياء تشير إلى ما أنجز وتدلل على تحضره وتفوقه على من كان يحكمهم، بينما لم نقرأ في تاريخنا المعاصر عن ديكتاتور تم التخلص منه دون أن يحيل البلاد إلى ركام مريع من الدمار البشري والعمراني، وخير شاهد ما نراه اليوم في حواضرنا العربية البائسة.

في الوقت الذي أسهم الاحتلال الفرنسي من خلال وجوده وحسب، في إشعال روح المقاومة وقيم الفروسية والبطولة لدى رجال الثورة السورية، وعزز من تلاحم السوريين في مواجهة المحتل، قتل الحكم الوطني البعثي كل القيم الإيجابية في روح مواطنيه، وصار مستوى الفساد الشخصي سبيلا للتدرج في أعلى المناصب.

أذكر واقعة رواها والدي وهو يتندر بمخازي الأنظمة الوطنية ومن الانضباط الغائب في مؤسسات دولة البعث، عن ضابط في الدرك الفرنسي قبيل الجلاء بعام أو عامين، مر بمخفر للدرك في بلدة خان شيخون، وكان والدي يومها رقيباً في الدرك، وخلال جولته التفقدية وجد إسطبل الخيول -وكان مغرماً بها- مهملاً ولا توجد به نافذة للتهوية، فطلب من رئيس المخفر يومها أن يصنع فجوة في الجدار بمقياس معين لتهوية الخيل، وكتب في دفتره مقياس هذه الفتحة ليحضر معه حين عودته من دمشق إطارا خشبيا لهذه الفتحة، لم يكترث رئيس المخفر لهذا الطلب وأهمله كعادته ظناً منه أن هذا الضابط لن يتذكر إسطبلا للخيل في مدينة صغيرة كخان شيخون يومها، وبعد أسبوعين عاد الضابط الفرنسي ومعه الإطار الخشبي ليجد أن أمره قد أهمل وأن نافذة التهوية لم تصنع، فأبرق من فوره رسالة موجزة لكل قطعات الدرك الفرنسي في سوريا، بتخفيض رتبة رئيس المخفر إلى عريف ونقله في يومه إلى أقصى مخفر في المنطقة الشرقية.

قي الجهة المقابلة كان يدير مؤسسة الكهرباء في مدينة حلب بداية الثمانينات، مدير فاسد قل نظيره في الفساد، وضجت المؤسسة لسنوات من تماديه في التحرش بالموظفات، ومن نهبه لمقدرات المؤسسة، وما إن وصل الخبر إلى القيادة في دمشق، حتى أمرت بعزله عن منصب المدير وتسليمه وزارة الكهرباء، لكنه لم يبق في هذه الوزارة إلا مدة 16سنة، هكذا تصنع الترقيات في عالم المافيات الأسدية.

يذكر كثير ممن عاصروا فترة الانتداب الفرنسي كم كان لحكومة الانتداب من أثر بالغ في رفع سوية التعليم والمناهج التعليمية.

تركت فرنسا إثر رحيلها عن بلادنا أعمالا تشهد لها، فالعدد الأكبر من الحدائق العامة، كان لحكومة الانتداب الدور الأكبر في إنشائها، وفي باب تخطيط المدن الذي لم تعرفه سوريا قبل الانتداب الفرنسي، ما تزال مخططات إيكوشار هي المرجع الأول في العمران المدني السوري، ويذكر شيخ الصحافة السورية شمس الدين العجلاني "أننا لا نستطيع أن ننكر أن ميشيل إيكوشار المهندس المعماري الفرنسي لا يزال إلى الآن يقبع في ممرات مبنى وزارة السياحة ووزارة الثقافة ويتجول في أروقة محافظة دمشق مستشاراً فرنسياً من زمن الاحتلال الفرنسي. وما زال شبحاً يسرح ويمرح في كل حارات وأزقة دمشق القديمة".
ويذكر كثير ممن عاصروا فترة الانتداب الفرنسي كم كان لحكومة الانتداب من أثر بالغ في رفع سوية التعليم والمناهج التعليمية، وإيفاد المئات من الشباب السوري للتعلم في أوروبا.

في المقابل نجد قامة وطنية، وعلماً أفنى عمره في مقارعة الانتداب، وهو فخري البارودي أحد مؤسسي الكتلة الوطنية التي أسهمت في الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار الفرنسي في سوريا يقف بعيد الإصلاح الزراعي (1959-1964) وبعد التأميمات التي قضت على رأس مال الصناعات المهمة في سوريا وقتلتها وهجرتها، يقف ليقول بملء فمه: "اشتموا معي كل من ضرب حجراً في وجه المستعمر بعد أن أوصلنا الوطن بعهد الاستقلال إلى هذه الحال".