بعد مرور أكثر من عقدين على انقلاب الثامن من آذار، أيقن أبو جاسم أن البعث باقٍ ويتمدد – في المدى المنظور، على الأقل – وأن استيلاءه على السلطة ليس مجرد انقلابٍ عابرٍ آخر. ولما ساءت الأوضاع المعيشية في البلاد، قرر أن يستقيل من عمله في وزارة التربية، ويبحث عن عمل في إحدى دول الخليج – لا ليبشِّر بفكر البعث، كما كان الرفاق في الحزب الحاكم يرجون منه، بل لينجو من أسطوانة "أذكار" دلال الشمالي التي ترددها الإذاعة المدرسية كل يوم عدة مرات.
كان أبو جاسم بطبعه متمردًا مشاكسًا – أو مْجاكِك بالمصطلح الفراتي الدارج. كان مدرسًا للغة العربية، وكان أقرب الشعراء إلى قلبه الأُحَيْمِر السعدي وعروة بن الورد. وكان من آرائه الطريفة أن العروبة لا تحتاج إلى حزب البعث، والإسلام لا يحتاج إلى الإخوان، والله لا يحتاج إلى حزبٍ في لبنان.
***
شدَّ صاحبنا الرحال إلى وجهته الخليجية، وكان قد تعاقد مع مدرسة حكومية فيها لتدريس العربية. رحَّب به مدير المدرسة بلطف فائض في أول يوم من العام الدراسي. تناول القهوة والتمر، وانتظر متوجسًا أن يأتوه ببول البعير ليغسل يديه من آثار التمر – كما أخبره الرفاق قبل أن يغادر أرض الوطن – لكن مضيفيه قدموا له مناديل معطرة بدلاً من ذلك.
سأله المدير:
- أخي، أبا جاسم، أنت من أي محافظة في سوريا؟
- من الرقة.
- حيَّاكم الله، أخي أبا جاسم. إخوتنا في سوريا كلهم على الرأس والعين. والله، إني أحسدكم لأنكم سوريون.
على أيش تحسدنا، يا غراب البين؟
لم يقل ذلك جهرًا.
- طبعًا، كلُّ ذي نعمة محسود.
- يكفي أن تغني لكم دلال الشمالي كل صباح ومساء:
من قاسَيُون أُطِلُّ يا وطني ... فأرى دمشقَ تعانق السُّحُبا
آذارُ يَدْرُجُ في مَرابِعها ... والبعثُ ينثر فوقها الشُّهُبا
- لم أتوقع، يا رفيق أبا فهد، أن تكون بعثيَّ الهوى!
- لك أن تقول ذلك، يا أبا جاسم.
- والله، يا طويل العمر، لو دَرَجَ آذار في مَرابِعكم، لكان نفطكم في "أيدٍ أمينة" ولشحذتم الخبز!