في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وتصاعد وتيرة التهديدات التركية بشن عملية عسكرية برية في مناطق سيطرتها، سواء في مناطق نفوذ قوات التحالف الدولي (عين العرب، منبج) أو في مناطق النفوذ الروسي (تل رفعت، عين عيسى)، جاءت زيارة الزعيم الكردي بافل طالباني لقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي في مدينة القامشلي لتزيد المشهد السوري تعقيداً، وتثير العديد من التساؤلات حول الدوافع والأسباب من وراء هذه الزيارة.
زيارة رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ذي الخلفية الاستخباراتية، الذي ورث علاقات إيجابية مع النظامين السوري والإيراني وحزب العمال الكردستاني، من والده الراحل جلال طالباني، وحافظ على تلك العلاقة الحميمية طيلة سنوات مضت، برفقة قائد قوات التحالف الدولي، ماثيو مكفارلين وعلى متن طائرة أميركية، ربما حملت في طياتها رسائل متعددة ذات مضامين داخلية وإقليمية تتعلق بالصراع في سوريا وعليها.
أما حزب الاتحاد الوطني الكردستاني فكان جل اهتمام زعيمه جلال طالباني توفير الدعم السياسي والعسكري من نظامي دمشق وطهران في مواجهة خصمه التاريخي مسعود البرزاني
لفهم ماهية الزيارة وأبعادها لا بد من استحضار العلاقة التاريخية التي تربط بين حزب الاتحاد الكردستاني ونظام الأسد (الأب والابن)، وحزب العمال الكردستاني، والتي بقيت في أحسن حالاتها بين الأطراف الثلاث حتى العام 1998. استطاع حافظ الأسد خلال تلك الفترة استثمار تلك التنظيمات التي جمعته بها المصلحة المتبادلة، كورقة ضغط ضد حكومتي تركيا والعراق للمساومة على مسائل أمنية واقليمية، كالمياه وجماعة الإخوان المسلمين التي كانت كلتا الدولتين تؤمنان ملاذا آمنا لها، في حين استفادت هذه التنظيمات أيضا من هذا التحالف حيث كانت الجغرافيا السورية ومنطقة البقاع اللبنانية الواقعة تحت سيطرة القوات السورية الموجودة في لبنان آنذاك، بيئة آمنة لمعسكرات حزب العمال الكردستاني وأنشطته التنظيمية والإرهابية الموجهة ضد دول الجوار، أما حزب الاتحاد الوطني الكردستاني فكان جل اهتمام زعيمه جلال طالباني توفير الدعم السياسي والعسكري من نظامي دمشق وطهران في مواجهة خصمه التاريخي مسعود البرزاني.
وبعد انطلاق الثورة السورية في آذار 2011 حصل اجتماع بين الأطراف الثلاثة برعاية إيرانية لرأب الصدع الذي حصل بعد طرد أوجلان من سوريا عام 1998، ومشاركة الاستخبارات السورية المعلومات مع المخابرات التركية عن تحركاته ومكان وجوده والتي أدت لاعتقاله. نتج عن الاجتماع الاتفاق على انسحاب نظام الأسد من أغلب المناطق الكردية وتسليمها لقوات حماية الشعب (ب ي د)، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، بهدف تحييد الأكراد السوريين عن الثورة السورية وقمع انتفاضتهم بوجه النظام وملاحقة نشطائهم والتضييق عليهم.
ربما تبدو الزيارة هي حاجة لقسد أكثر منها لطالباني، في ظل ما تعيشه من ظروف التهديدات التركية بشن عملية عسكرية تجتاح مناطق سيطرتها في شمالي وشمال شرقي سوريا، وشعور قسد باليتم، وتخوفها من تخلي الحليف الأميركي الذي لم يعد يولي اهتماما كبيراً بها، والتي أوحت تحركاته الأخيرة باتجاه دعم فصيل ثوار الرقة بتخفيف مستوى الاعتماد عليها، إلى جانب الاهتمام الواضح بجيش سوريا الحر واللقاءات المكثفة مع أبناء العشائر العربية، وكلها تطورات أثارت قلق ومخاوف قسد.
على أية حال رغم أن الزيارة تلبي حاجة لقسد أكثر منها للضيف الزائر ببزته العسكرية، والذي لم يكن لحزبه أي حضور فاعل في سوريا خلال السنوات الماضية سوى الدور الاستخباراتي التنسيقي الذي لعبه من خلال ابن عمه (لاهور طالباني)، بين (ب ي د)، والولايات المتحدة إبان هجوم تنظيم داعش الإرهابي على مدينة عين العرب صيف عام 2014، إلا أن حاجته لا تقل أهمية، ولن يفوت حالة الضعف التي تمر بها قسد وحاجتها للدعم المعنوي والسياسي، واعتبارها الفرصة المواتية ليكون له دور فاعل في سوريا وموطئ قدم لمنافسة الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة السيد مسعود البرزاني، الذي يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الكردية السورية.
لعل أبعاد الزيارة والرسائل التي تنطوي عليها قد لا تصل إلى مستوى الرهان على صنع فارق في المعادلة الكردية الداخلية المتعلقة بالصراع في سوريا، أو بتغيير في علاقات القوى الكردية مع القوى الإقليمية، بقدر ما تنطوي على محاولة الحزب الوطني الكردستاني أخذ دور في الساحة السورية على حساب المجلس الوطني الكردي المدعوم من حكومة أربيل البرزانية.
من هنا يمكننا تلمس أولى الرسائل المزدوجة من الزائرين، الكردي طالباني، والأميركي مكفارلين، وهي موجهة لحكومة أربيل التي لطالما رفضت دعم (ب ي د) على حساب أحزاب المجلس الوطني الكردي، وطالبتها بالانفكاك عن حزب العمال الكردستاني، والتخلي عن تعنتها وشروط الهيمنة في الحوار الكردي-الكردي، الذي رعته أميركا ولم يفض إلى شيء.
فالمعروف عن الرجل أنه يتحرك داخليا وإقليميا بناء على معدل حجم التوتر بينهم وبين حكومة كردستان العراق، ويحاول العمل على المناكفات الكردية الكردية، وكسب أوراق داخلية على حساب البرزاني، وبالتالي فإن الدخول على الورقة السورية من بوابة قسد، وإحداث نوع من التوازن بين الجماعات الكردية، يخدم هذه الاستراتيجية، كما يؤكد أن لقسد أيضاً ظهيراً كردياً يدعمها، كما المجلس الوطني الكردي.
الرسالة الثانية موجهة من مكفارلين لدول الإقليم وتركيا بالتحديد، أن قسد ما زالت حليفاً مهماً للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، ومن طالباني بأن قسد ليست وحدها في الساحة وليست منبتة عن جذورها وحاضنتها القومية الكردية، بل لها حاضنة شعبية تمتد للعمق الكردي ويقف خلفها طيف كردي واسع، وهذا ما يجب على تركيا أخذه بالحسبان عندما تفكر بشن أي عملية عسكرية ضدها.
الرسالة الثالثة لتطمين قيادة قسد باستمرار التعاون في محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش ودعم الولايات المتحدة لها وعدم التخلي عن خدماتها، وتصفية الأجواء بين الطرفين بعد أن عصفت بها بعض الخلافات، وتوقف التنسيق بينهما على خلفية اتهام قسد لأميركا بالتخلي عنها وفتح الأجواء أمام الطائرات التركية لاستهدافها في عمق النفوذ الأميركي.
هنا تكمن المعضلة عند قسد ومن ورائها حزب العمال، فجذور التنظيم وانتماؤه الأساسي وتخوفه من تخلي أميركا عنه تجعله في حيرة من أمره
ويبقى السؤال المهم: هل كانت زيارة طالباني لإقناع قيادة قسد بالذهاب مع المشروع الروسي الإيراني بالتفاهم مع النظام والانسحاب من المنطقة لتحل قوات النظام محلها، من أجل تجنب العملية العسكرية التركية، وهل سيكون هذا التفاهم من بوابة إيران عبر المسمى صانع الصفقات، أم لإقناعها بالذهاب مع المشروع الأميركي؟
هنا تكمن المعضلة عند قسد ومن وراءها حزب العمال، فجذور التنظيم وانتماؤه الأساسي وتخوفه من تخلي أميركا عنه تجعله في حيرة من أمره، ولكن مصلحتهم الوجودية واستمراريتهم تتوقف على رضا أميركا عنهم وحمايتها لهم، في ظل ما تعانيه أطراف الصراع الأخرى، وأعني هنا الروس الغائصين في المستنقع الأوكراني، والإيرانيين المشغولين بمشكلاتهم الداخلية والاقتصادية، فإلى أين يمكن أن تكون وجهة المراكب القسدية التائهة؟