"كنت أخاف من الدم قبل تلك الحادثة التي قلبت حياتي"، تقول آمنة البش المتطوعة في مؤسسة الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء"، وتضيف في حديث لـ موقع تلفزيون سوريا: "تعاملت مع الشهداء الذين قضوا بقصف للنظام استهدف منزلنا، حيث استقبلنا عائلة نازحة من قرية محمبل تحولت إلى ضحايا في إثر ذلك القصف".
آمنة البش (34 عاماً)، التي اختارتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في قائمتها السنوية التي تضمّ أكثر 100 سيدة ملهمة ومؤثرة حول العالم عن العام 2023؛ تنحدر من قرية احسم في جبل الزاوية جنوبي إدلب، وهي أم لـ 5 أطفال، وانضمّت لـ "الخوذ البيضاء" في عام 2017.
"كسرت حاجز الخوف"
على الرغم من دموية الحادثة التي ترويها آمنة، والتي وقعت عام 2013، إلا أنها ساهمت في كسر جدار الخوف لديها. وتقول آمنة: "غسّلنا إحدى شهيدات القصف، وعاينت حينها شجاعة متطوعين من الدفاع المدني. كانوا في وقتها يعملون بشكل مشتت قبل تأسيس الخوذ البيضاء بأشهر قليلة".
كانت الحادثة نقطة تحوّل لدى آمنة التي رمت الخوف من الدم خلف ظهرها، بحسب ما تقول. وبدأت تترد الأسئلة بداخلها: "لماذا نحن السيدات لا نسهم في هذا العمل الإنساني؟ لماذا تحكمنا العادات والتقاليد؟".
"عيوني على الخوذ البيضاء"
وخلال رحلة البحث عن إجابات لأسئلتها، كانت الصورة الشجاعة لـ "الخوذ البيضاء"، التي بدت أكثر تنظيماً ونشاطاً، تكبر في مخيّلة آمنة التي بدأت تتجه نحو مراكز دعم المرأة لتأخذ دوراً فاعلاً في المجتمع المنكوب بنير الحرب والقصف، إلى أن وصلت إلى مرادها وطموحها في العام 2017.
قبل فترة قليلة تدرّبت آمنة على التمريض، وحازت على الدرجة الأولى في دورة الإسعافات الأوليّة التي حوّلتها إلى مدرّبة تمريض، وتقول: "كانت عيوني على الخوذ البيضاء، وأتساءل لماذا توفّر المؤسسة روابط للتطوع في صفوفها؟ وفي عام 2017 حصل ما كنت أتمناه وأعلن الدفاع المدني عن شواغر نسائية".
تتحدث آمنة عن أول شاغر لها كمسعفة في "الخوذ البيضاء" فتقول: "قدّمت إلى رابط التوظيف، وأجريت مقابلة. كانت أسئلتها صعبة جداً وعميقة، لكن الخبرة التي كوّنتها من دورات الإسعافات الأولية والتمريض كانت كفيلة أن أجتاز الامتحان بكفاءة وتميّز".
"كثير ما أبكي بآخر الليل"
بعد سنة من دخولها مؤسسة "الخوذ البيضاء"، دخلت آمنة ميدان العمل إلى جانب المتطوعين الآخرين، وتعتبر أنّ هذه الخطوة لم تكن لولا دعم عائلتها وزوجها وأختها دلال، وعائلتها الثانية في الخوذ البيضاء.
تقول آمنة: "مكان إقامتي في جبل الزاوية، وهي منطقة هجمات شبه دائمة، ولذلك كلما توجّهت نحو العمل، كنت أضع خيار أن أعود لأجد بيتي مستهدفاً أو أكون أنا المستهدفة. في كل صباح أستودع أطفالي وعائلتي وأنطلق للعمل".
وتستطرد: "خلال العمل لا أظهر أي ضعف ـرغم المشاهد المؤلمة التي نتعامل معها يومياً. أؤجل هذه المشاعر للمنزل، فكثيراً ما أبكي وحدي في آخر الليل".
تتحدث آمنة عن واحدة من القصص التي تؤلمها، فتقول: "خلال الحملة العسكرية الأخيرة، قالت لي شابة مصابة في مستشفى المحافظة وعلى سرير الإصابة، سأعزمكِ على أطباق أمي الشهية بعد أن أتعافى، لكن لم تكن تعلم أن والدتها استشهدت. هذه الشابة فقدت عينها، وكثيراً ما كانت تقول بأنّ قدمها قد أصابها الخدر (التنميل). كنا قد وضعنا حاجزاً بين ساقيها وأعلى جسدها حتى لا تكتشف أنها فقدت أيضاً ساقها بالقصف".
"هذه التفاصيل كلها تضعفني وتؤثر على نفسيتي، ورغم ذلك أدعي الحزم والقوة أمام الضحايا والمصابين، حتى أكون داعمة لهم، لأكتشف في نهاية المطاف أن هذه المواقف تتعبني ولكنها تقوّيني على المدى الطويل"، تختم آمنة.
"دراسة بعد 17 عاماً"
على جانب آخر من عملها وعائلتها، كانت آمنة تكافح في سبيل "تحصيل حلم مؤجّل"، بحسب تعبيرها، وهو العودة إلى مقاعد الدراسة بعد انقطاع دام 17 عاماً بسبب ظروف الحرب والزواج.
في عام 2020، قررت تقديم امتحان الشهادة الإعدادية (الصف التاسع)، وحصلت عليها بعد دراسة 3 أشهر فقط، وفي العام التالي حصلت على الشهادة الثانوية، وبعدها سجّلت في معهد إدارة الأعمال.
تقول: "كنت أشعر أني كبرت على الدراسة، لكن زوجي وعائلتي كانا محفّزين لي.. دراستي كانت كلها ليلية بحكم عملي في النهار مع الخوذ البيضاء، وفي المساء وقت مخصص لعائلتي، وفي الليل هو التوقيت الوحيد لدراستي".
"أنتِ ملهمة لنا"
وتتحدث آمنة عن ما وصفتها بـ "حالة عدم الدهشة من قبل معارفي وأصدقائي، إزاء نبأ اختياري في قائمة 100 امرأة ملهمة. جميعهم قالوا لي أنتِ ملهمة لنا منذ زمن طويل. حتى زوجي قال لي أنتِ أفضل امرأة في العالم بالنسبة لي، وليس من 100 امرأة".
لكن آمنة لها رأي آخر: "كان لدي تحفّظ من اختياري ضمن القائمة، أعتبر أنّ كل سيدة سورية هي ملهمة، ومؤثرة، بسبب تضحيتها وصمودها في هذه البلاد، وليس فقط آمنة. لكن هذا لا يعني أني لم أشعر بفخر واعتزاز كبيرين بالأمر الذي أعتبره تتويجاً لمسيرة كانت محفوفة بالمخاطر والمصاعب والآلام، خاصةً وأني أحمل اسم عائلة الخوذ البيضاء".