على الرّغم من احتدام الصّراع بينه وبين وجماعة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي؛ لم ينقطع حافظ الأسد عن حضور احتفال المولد النبويّ في جامع بني أميّة الكبير، هذا الاحتفال الذي له جذورٌ ضاربةٌ في تاريخ الجامع الأمويّ، ففيه كانت انطلاقة عادة القيام عند الوصول إلى حادثة ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلّم.
وقد ذكرت بعضُ المصادر التّاريخيّة أنّ الحادثة وقعت في أوائل القرن الثامن الهجري حيثُ كانت تقرأ فيه ختمة حضرها القضاة، وأعيان البلد، وكان قاضي القضاة، تقي الدين السبكي جالسا معهم في محراب الصّحابة الذي يسمّى أيضًا محراب المالكية؛ فتغنّى منشدٌ بقصيدة الشاعر جمال الدّين الصرصري التي أولها:
قليلٌ لِمَدْحِ الْمُصْطَفَى الْخَطُّ بِالذَّهَبْ
على وَرِقٍ مِن كَفِّ أَحْسَنِ مَنْ كَتَبْ
وأَنْ تَنْهَضَ الأَشْرَافُ عِنْدَ سَمَاعِـِه
قِيَامًا صُفُوفًا أوْ جُثِيًّا عَلَى الرُّكَـــبْ
فعند ذلك قام الإمام السّبكي، فقام جميع من في المجلس، وحصل بذلك أنس ٌكبير وسعادةٌ غامرة، ومن ذلك الوقت صارت عادة القيام عند ذكر لحظة ولادته عليه الصلاة والسلام.
حرص حافظُ الأسد على توظيف المناسبة التي يراها كثيرٌ من المسلمين طقسًا شعائريًّا أو عادةً مستحسنة تدلّ على حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وللسوريين عامة والدمشقيين منهم تقديسٌ خاص لها.
وقد كان أشدّ حرصًا عليها حضورًا ومشاركةً وفاعليّةً في فترة الثمانينيات إذ اشتدّت المعركة ونزل الجيش بدبّاباته في شوارع المدن ودمّرت حماة على رؤوس أهلها.
وكان الأسد بالغ الحرص في عموم المناسبات الدّينيّة وفي مقدّمتها المولد النبويّ على الظّهور مصطحبًا الشّيخ أحمد كفتارو مفتي الجمهوريّة ومن خلفه عشرات العمائم من المدارس الشرعيّة والجماعات الدّعويّة المختلفة ليؤكّد من خلال هذا المشهد على رسائل في عدّة اتّجاهات أهمّها:
أولًا: إنّ الأسد ونظامه ليسوا أعداء للإسلام كما يحاول الإسلاميّون الحركيّون تصوير ذلك بل على العكس تمامًا فهو حريصٌ على إقامة كلّ الطقوس التي تدلّ على حبّه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ثانيًا: ضرب صدقيّة جماعة الإخوان المسلمين سواء في ذلك التنظيم السوري أو الجماعة في مختلف التنظيمات التي كانت تحرص على تقديم خطابٍ يؤكّد على أنّ المعركة ضدّها في سوريا هي حربٌ على الإسلام.
ثالثًا: التّأكيد على أنّ ما تسرّبه بعض وسائل الإعلام العالميّة آنذاك عن مجازر واضطهادات ما هو إلّا ضربٌ من المبالغة الممزوجة بالكذب، فهذا هو المجتمع الدمشقيّ يعيشٌ آمنًا مطمئنًّا ويقيم احتفالاته الدّينيّة ببالغ الحبّ والوئام.
عمليّة تبييض صورة حافظ الأسد ونظامه من خلال الصّورة المنقولة من داخل الجامع الامويّ والتي يرادُ لها أن تغطّي على دخان الحرائق في حماة وغيرها كان يقوم بها صنفان في احتفالات المولد النبويّ
الصّنف الأول: أصحاب العمائم من مشايخ المؤسسة الرسميّة وكان أبرزهم من حيث الظّهور والفاعليّة في احتفالات المولد النبوي في عهد حافظ الأسد ثلاثةُ مشايخ.
الأوّل: الشّيخ أحمد كفتارو الذي كان لا يلقي أيّة كلمة في تلكم الاحتفالات مكتفيًا بحميمية المرافقة وضحكات المحبة الغامرة والوشوشات الجانبيّة المختلسة ليقوم بتقديم صورةٍ تنطقُ بالكثير عن إجلال القائد "المؤمن" حافظ الأسد للعلماء والدّعاة.
والثّاني: الشيخ بشير عيد الباري مفتي دمشق والخطيب المصقع الذي يهدرُ صوته وتنتفخ أوداجه وتتغيّر نبرته كلّما قال: "يا سيادة الرّئيس" التي تأخذ حيزًا كبيرًا من كلمته التمجيديّة.
وكانت تبلغ مداهنة الباري لحافظ الأسد حدودًا لم يتوقّعها هو نفسه ربّما؛ ففي احتفال المولد النبويّ في الجامع الأمويّ في أوائل ثمانينيات القرن الماضي أتى الشيخ الباري على ذكر قوله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا"
فقرأها "فأصبحتم بنعمته إسلاما" في إشارةٍ واضحةٍ أنّه لا يريدُ أن يذكر كلمة الإخوان بين يدي القائد "المؤمن" حافظ الأسد حتّى لو وصل به الأمر إلى تحريف الآية الكريمة.
والثّالث: خطيبُ النّظام المتمكّن وعريف الاحتفالات ومقدّم الحوارات الدينيّة الدّكتور مروان شيخو الذي كان من تلاميذ الشّيخ أحمد كفتارو وهو صاحب براءة الاختراع وصف حافظ الأسد "بالقائد المؤمن" هذا الوصف الذي حرص كثيرٌ من الخطباء على إلصاقه بحافظ الأسد إلى ما بعد وفاته.
وعمومًا فإنّ حفلة عيد المولد النبويّ بحضور حافظ الأسد كانت تحفل بتمجيد "القائد المؤمن" أكثر من تمجيد صاحب الذّكرى عليه الصلاة والسّلام.
وأمّا الصّنف الثّاني؛ فهم أصحاب الطّرابيش من المنشدين الذين لم يكن دورهم يقلّ عن دور أصحاب العمائم في حفلة عيد المولد النبويّ التمجيديّة؛ فلا يصلح احتفالٌ بذكرى المولد النبويّ دون تشنيف الأسماع بمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وكان أشهر هؤلاء على الإطلاق رئيس رابطة المنشدين ومؤذّن الجامع الأموي توفيق المنجد الذي كانت له "ماركة مسجلّة" ببعض العبارات التي ينشدها بين يدي حافظ الأسد ومنها:
" وسلامًا مع تحيّة لرئيس الجمهورية
ولتعيشي يا سوريا بالهنا طول الزمان"
ومن ذلك أيضًا ترنّمه قائلًا:
"أسدُ العروبة حافظٌ، وعرينُه أرضُ الشآم
أعطاك ربّي رتبةً علياءَ في أعلى مقام!"
وبعد إعلان حافظ الأسد السّلام خيارًا استراتيجيًّا كان لا بدّ من أن تمارس فرقة الطرابيش المدائحيّة تبييضَ هذه الصّفحة الجديدة كما يفعل الخطباء في إشادتهم بهذا القرار المنبثق من "روح الإسلام"، فيترنّم المنشدون بين يدي حافظ الأسد قائلين:
"يا راعياً للمولد المعطاء، كنز الوئام
دم شامخًا في عزّة شمّاء، يا رمز السلام
فجميل صنعك شاهدٌ حيّ على هذا الكلام
منّي إليك تحيّةٌ عربيّةٌ، منّي السّلام
أبقاك ربي حافظًا، ولنحتفل في كلّ عام"
وهكذا رسم نظام حافظ الأسد قالبًا لاحتفال المولد النبويّ الذي يحضره الرّئيس، فهو يحتوي على كلمة وزير الأوقاف وكلمةِ أحد أصحاب العمائم الرسميّة، ووصلة إنشاد ثم الختام بدعاءٍ وابتهالٍ إلى الله تعالى يكون للأسد فيه النصيب الأوفر.
ويستمرّ إلى اليوم القالب ذاته دون أدنى تغيير فكأنك تستنسخ الاحتفال ذاته في كلّ مرّة مع اختلافٍ طفيفٍ في الشّخصيّات التي تحت العمائم والطرابيش.
وما فعله الأسدُ الأب حرص الابن بشّار على انتهاجه حذو القُذّة بالقذّة، لا سيما عقب انطلاق قطار الرّبيع العربيّ بعد أن سادت في النصف الثّاني من العقد الأول من هذا القرن جفوةٌ صارخة من طرفه تجاه الوسط المشيخي الذي كان يعيشُ إرباكًا بسبب هذه الجفوة.
ففي عام 2001م وفي منتصف شباط "فبراير" حرص بشّار الأسد على أنّ يكون احتفال المولد النبويّ في تلك السنة استعراضيًّا لإثبات التفاف الجماهير حوله وللتأكيد أمام المجتمع المحلي والإقليمي والدّولي على أنّه بمنأى عن الرّبيع العربي الذي أصاب نوّاره تونس ومصر، فكان احتفال المولد في تلكم السنة ثلاثيّ الأبعاد في محاولة التبييض وإيصال الرّسائل في مختلف الاتّجاهات.
كان إمام وخطيب الاحتفال حينئذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي إلى جانب وزير الأوقاف محمد عبد السّتار السيّد، وكانت الكلمات وما يتبعها من إنشادٍ تؤكّد على التفاف الشّعب كلّه حول بشّار الأسد والتّحذير من الفتن وإرسال رسائل مفادها أنّ "سوريا غير".
وبعد انتهاء الطّقوس المعتادة والإشادة بما تنعم فيه سوريا من الأمن والأمان في ظلّ بشّار الأسد خرج ليجد الجماهير العارمة قد أقبلت من كلّ حدبٍ وصوبٍ بشكلٍ "عفويّ" لتؤكّد بيعتها له والتفافها حوله بخلاف الجماهير الجاحدة التي ثارت على حكّامها.
ومن بعد 2011م غدا التركيز الإعلاميّ على حضور بشّار الأسد احتفالات المولد النبويّ مضاعفًا، وغدت هذه الاحتفالات والطّقوس الإسلاميّة الموسميّة مناسبةً رئيسةً ليعمل أرباب الشعائر الدينيّة من أصحاب العمائم والطرابيش على ترسيخ رواية النّظام ودعمه في "حربه على الإرهاب ومواجهة المؤامرة الكونيّة التي يتعرّض لها".
وكان نظام بشّار الأسد فيما بعد عام 2011م يحرصُ ترسيخ ميلِه إلى التديّن وعدم مجابهته في الوعي الجمعيّ لحاضنته المؤيّدة، وهو ما كان يعمل على ترسيخ نقيضه في مرحلة ما قبل الرّبيع العربيّ.
ومن ذلك القرار الذي أصدرته وزارة السّياحة عام 2019م ويقضي بمنع تقديم المشروبات الكحولية والبرامج الفنية في المنشآت السياحية في ليلة المولد النبويّ وليلة النّصف من شعبان وليلة القدر.
ليبدأ خطباء احتفالات المولد النبويّ يرتكزون على هذا القرار بوصفه من الإنجازات الإيمانيّة للرّئيس بشّار الأسد في تبييض صفحة الأسد والدّفاع عنه.
علمًا أنّ هذا القرار صدر قبل أن يحكم البعث في سوريا بأكثر من عشر سنوات، في المرسوم التشريعي رقم /180/ تاريخ 23/3/1952 وتعديلاته، حيث تقر المادة 11 منه:
" تغلق الحانات والملاهي ليلة المولد النبوي الشريف، وليلة 27 رجب، وليلة منتصف شعبان، وليلة 27 رمضان من كل سنة ".
وبقي هذا القرار معطّلًا منذ انقلاب البعث على الحكم عام 1963م حتّى عام 2019م
ومما يجدر ذكره أنّ هذا الاستثمار والتّوظيف من النّظام لاحتفالات المولد لا يلقى نكيرًا كبيرًا من عموم المؤسسات والجماعات الدّينيّة والدّعويّة في الواقع السّوري وذلك بسبب خشية هذه المؤسسات أو الشّخصيّات من مواجهة المزاج العام الذي يعد الاحتفال بالمولد النبويّ من دلائل محبّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأيّ اعتراضٍ قد يفهم أنّه اعتراضٌ على القيام بالاحتفال من حيث المبدأ ويضع صاحبه في صف التيار السلفي "الوهابي" الذي جعل من قضاياه الرّئيسة لعقود محاربة الاحتفال بالمولد النبوي.
إنّ توظيف النّظام لاحتفالات المولد النبويّ هو من ضروب الاستثمار الرسميّ للتديّن الشّعبي الذي يختزن مجموع التّصورات الدينية والطّقوسية والشّعائرية، ويمارس أرباب المشيخة الرسميّة من أصحاب العمائم والطرابيش في احتفالات الموالد النبويّة صورةً الأسديّةِ حقيقةً دورًا في تبييض صورة النّظام وسمعته على المستوى الدّاخلي والخارجي.
وهكذا يغدو الاحتفال الأسديّ بالمولد النبويّ أحد تجليّات استخدام النّظام للدّين في تحقيق أهدافه، وتوظيف المؤسسّة المشيخيّة الرسميّة في خدمة أغراضه وتنفيذ سياساته.