يفيد التاريخ أن المرأة الأميركية لم تحصل على حقها في التصويت حتى عام 1920، ولم تتقلد مناصب سياسية عُليا إلا في بداية الثلاثينات، وهي ما زالت حتى الساعة تعاني تمييزا إذا ما أبدت منافسة للرجل فيما يَعتبره ميدانا حكرا عليه وفي مقدمته الإبداع الفني، ومعدل رواتب المديرات التنفيذيات في الولايات المتحدة هو أقل 40% للمرأة منه للرجل التي تشغل المنصب نفسه، وتتمتع بالخبرة المهنية ذاتها.
أرى أن المرأة في الغرب ليست أفضل حظا بكثير عن نظيراتها في الشرق. وأفضل مثال على التمييز الذي يترصّد بالمرأة على مستوى تصنيفها الجنسي هو ما تعرضت له المرشحة الرئاسية للعام 2024 في الولايات المتحدة، السفيرة نيكي هيلي، مقارنة بمنافسها على ترشيح الحزب الجمهوري الرئيس الأسبق دونالد ترامب. فرغم مساوئ فترة الرئيس ترامب التي هي أعلى من محاسنها، اختار الناخب الأميركي أن يصوّت لرجل وليس لامرأة تصل إلى البيت الأبيض.
لم يحرم الإسلام إمامة المرأة، والأدبيات الإسلامية تتألق بأسماء ملكات ورياديات تركن بصماتهن على نواصي التاريخ من أمثال الملكة أروى بنت أحمد الصويلحي وفاطمة الزهراء وخديجة بنت خويلد وولّادة ابنة المستكفي بالله وشجرة الدرّ وغيرهن من العلامات الناضرات في العلم والتجارة والسياسة والفكر الإنساني.
تخضع المرأة العاملة إلى واجبات مضاعفة؛ فالزوج في البيت لا يعفيها من واجباتها المنزلية ولا يشارك فيها ويتنازل قليلا عن مكتسباته كذكر اجتماعي بامتياز جنسه
من أبرز عوامل تحرر المرأة هو خروجها للعمل وتحقيقها دخلا يسمح بتحررها الاقتصادي من الطوق الذي تفرضه عليها حاجتها المادية للاعتماد على المعيل الرجل، زوجا كان أو أبا أو ابنا. هذا بشرط ألا تقع ضحية ظروف عمل غير عادلة، كأن تقدم يدا عاملة أقل كلفة وأكثر تحملا لظروف مهنية قد لا يراعى فيها حماية العاملين وتأمينهم صحيا، أو تكون عرضة للتحرش الجنسي، من رئيس أو زميل، دون أن تجد من يدفع عنها هذا الاعتداء العصابي، هذا من جهة، وعلى جانب موازٍ، تخضع المرأة العاملة إلى واجبات مضاعفة؛ فالزوج في البيت لا يعفيها من واجباتها المنزلية ولا يشارك فيها ويتنازل قليلا عن مكتسباته كذكر اجتماعي بامتياز جنسه. المطلوب من المرأة أن تهتم بعملها وتطور نفسها مهنيا، وحين تعود إلى البيت ينتظرها عملها الانفرادي، كأم وزوجة ومدبرة منزل، ناهيك عن أنها مطالبة بالمشاركة اقتصاديا في ميزانية العائلة.
المشكلة الحقيقية لدى المرأة الشرق أوسطية حين تخوض غمار العمل العام هي “المرأة”! وأنا أكاد أقف أحيانا عاجزة عن تحليل ظاهرة عداء المرأة للمرأة، وأرى أنه ينطوي على مركب نفساني معقّد مادته الغيرة الاجتماعية، والشعور بالمنافسة الأنثوية، والوقوع فريسة فوبيا الحتميّة الذكورية التي تفرضها ثقافة بيئة هي أبوية بطرياركية بامتياز.
في ظل أسطورة التفوق الرجالي التي يشبّ عليها الصبية في البيت والمدرسة والشارع، تغدو حجة المرأة في الالتحاق بعالم صمّمه الرجال على مقاسهم ضربا من الترف في مجتمع يتعمّد حشرها في زوايا ضيقة
في عالم يرسم قواعدَه الرجل بامتياز تصنيفه الفيزيولوجي، ويخطّ قوانينه المدنية ويجتهد في تشريعاته رجال أيضا، لا ريب أن غياب المرأة عن خطوط المد التفاعلي ومكامن الإنجاز السياسي إنما هو محصّلة لما هو وضعي بشريّ مؤدلج، أوعقائدي ديني مُنزل. وهذا الأمر لا يقتصر على جغرافيا محددة أو ثقافة بعينها، بل يبدو جليا أنه شكل من نزوع عالمي وجنحة كونية لتقويض حراكهن. وفي ظل أسطورة التفوق الرجالي التي يشبّ عليها الصبية في البيت والمدرسة والشارع، تغدو حجة المرأة في الالتحاق بعالم صمّمه الرجال على مقاسهم ضربا من الترف في مجتمع يتعمّد حشرها في زوايا ضيقة من شؤون حياتية أدنى إنجازا وأضعف اتصالا مع مراكز الحراك المدني والسياسي.
المطلوب هو التغيير في ذهنية الرجل أولا، التغيير في نظرته الفوقيّة إلى المرأة، والاعتراف بها على أنها عقل وطاقة كامنة وليس جسدا أو أداة للمتعة وحسب. لم يعد ممكنا في القرن الحادي والعشرين اختصار المرأة من خلال انتمائها لرجلٍ وحسب، والحد من تحررها أو منعها من السفر بمفردها بوصفها “الضلع الناقص” الذي قد يتعرض للغواية والمتاعب. المرأة قادرة اليوم أن تدافع عن نفسها وتحميها بغض النظر عن وجود الرجل أو غيابه عن حياتها. المسألة هي في تغيير الثقافة الاجتماعية التي تحصر المرأة في دائرة الشكوك والهوس الجنسي عند الرجل من جهة، والمجتمع ككل من جهة أخرى! المطلوب رفع الحجاب عن ذهن الرجل أولا ورفع الوصاية عن المرأة ثانيا والتعامل معها كرافد إنساني مكمّل للرجل وليس “خيال مآتة” واهيا ويابسا! هذا الأمر يتناسب طردا مع تفعيل المجتمع المدني الذي عادة ما يكون حافزا للمرأة والأقليات المغلوبة على أمرها، وقد يكون الأمر مضحكا ومثيرا للسخرية هنا عندما نقرن المرأة التي تشكل ما يعادل 60% من المجتمعات الشرق أوسطية ـ أي الأغلبية ـ مع الأقليات! لكن في حقيقة الأمر هي منقوصة الحقوق كأغلب الأقليات في شرقنا العنيد.