لا توحي الحقائق على الأرض أن نظام الأسد يوشك على السقوط؛ فلا النظام أظهر تراجعاً في السويداء ولا اهتم بورقة الأقليات، ولا مؤشرات على انقلاب الحاضنة الصلبة في الساحل عليه، ولا يبدو أن هناك ضغطاً دولياً حقيقياً يؤدي إلى تغيير سياسي.
صحيح أن الأسد أبدى بعض التردّد في استخدام العنف المفرط في السويداء بشكل مباشر، لكنه أيضاً أظهر مؤشرات وأرسل إشارات واضحة على استعداده للصدام وسلوك طريق العنف إذا ما اقتضت الضرورة لذلك مقابل عدم استعداده للتفاوض للتوصل إلى حلول حقيقية لمشكلات المحافظة، بل وسلك طريق 2011 نفسه بأنه ترك الناس تنفجر وتيأس من النظام وبالتالي تطالب بسقوطه كحلّ أخير دون أن تصدر منه أي بادرة إيجابية.
لا شك أن ظروف 2011 تختلف جذرياً من ناحية الشكل والمضمون، فلم يكن النظام مجرماً في عيون شعبه، ولم يكن منهاراً اقتصادياً كما الآن، لكنه يستطيع لو أراد الجلوس إلى مفاوضات حقيقية حول قدرات الحكومة ومعالجة ولو الحدّ الأدنى من الفساد، بحيث ينعكس على المواطن في السويداء وينقذه من ذل الفقر والحاجة. لكن نظام الأسد محكوم بالعقلية الأمنية التي ترى أن كل احتجاج هو تمرّد يجب وأده في مهده، وخطر على المديين القصير والطويل يجب عدم التساهل معه.
كالَ الإعلام الرسمي وفي وسائل التواصل الاجتماعي تُهَمَ التخوين ومحاولات الانفصال والعمالة لإسرائيل على أهالي السويداء، في رسالة واضحة أن منطق حماية الأقليات يجري على من يقف في صف النظام فقط
بهذه العقلية مضى النظام في زعزعة تماسك الأهالي في السويداء ودرعا من خلال الترغيب والترهيب والمفاوضات الهادفة إلى تقسيم الناس هناك وليس إلى إيجاد حلول، بينما كالَ الإعلام الرسمي وفي وسائل التواصل الاجتماعي تُهَمَ التخوين ومحاولات الانفصال والعمالة لإسرائيل على أهالي السويداء، في رسالة واضحة أن منطق حماية الأقليات يجري على من يقف في صف النظام فقط. طرح فكرة التخوين بحدّ ذاتها تعطينا فكرة عن إمكانية استخدام العنف ضد الأقلية الدرزية، ففكرة حماية الأقليات ما هي إلا حجة يعرف الجميع كَذِبَها، وقد تواطأ على ترديدها مؤيدو النظام والمجتمع الدولي على السواء، ومن أغمض عينيه عن قتل وتهجير الأكثرية بتلك الوحشية لحماية الأقلية، لن يتورع عن تجاهل ارتكاب نفس الجريمة في حقّ إحدى تلك الأقليات.
لقد خبرنا في السابق كل أشكال الدعم الدولي الآتية على شكل استنكارات واتصالات هاتفية، وما لم يكن هناك إرادة دولية حقيقية بإيقاف الأسد، فلن تفيد كل أنواع الدعم المعنوي، خصوصاً بعد أن فوتنا كل فرص تشكيل أجسام سياسية حقيقية قادرة على مواجهة الأسد في المحافل الدولية وإحراجه وفضحه والضغط عليه، ولنا في الائتلاف مثال لا يحتاج إلى كثير من الشرح.
بمنطق التخوين تصرّفت أيضاً حاضنة النظام ومؤيديه الذين أظهروا ليس فقط تردّداً واضحاً في سلوك أي طريق يؤدي إلى زعزعة النظام، بل أظهرت القاعدة تأييداً واضحاً لا لبس فيه أن مطالبها هي عبارة عن أوجاع وهموم بثّها بعضهم على وسائل التواصل الاجتماعي كنوع من التنفيس عن حالة الاحتقان، أو الشكوى من انعدام العدالة في توزيع الغنائم بعد كل تلك التضحيات، ولا يقصد بها أبداً أن تؤثر على النظام الذي يرى فيه الحماية والغطاء، كما يرى فيه عنصر القوة والحكم والنفوذ الذي لن يفرّط فيه ما لم يُكره على ذلك.
كلمة الإكراه هنا هي بيت القصيد، وهي طريق الفهم الواقعي لنظام الأسد؛ فعدا عن العقيدة الأمنية السوفييتية التي يحملها نظام الأسد، تدعمه أقلية ترى الحكم مكتسباً وامتيازاً ومصدر قوة لن تفرّط فيه ولن تتنازل عنه طوعاً ما لم تتغيّر موازين القوى وهو ما يبدو أنه غير متوافر حالياً في ظل الدعم الروسي والإيراني. لا ندري بالضبط أسباب غياب التصريحات الروسية أو الإيرانية بأنهم لا يرونها مشكلة مستفحلة بعد، أم أنهم لا يريدون التدخل فعلاً، ولكن المؤكد أن الطرفين ما زالا جادين في الدفاع عن مصالحهم في سوريا، والتي لا تتحقّق إلا بوجود نظام الأسد، على الأقل حتى توفّر ترتيبا دوليا كاملا، ولن يسمحوا بسقوط الأسد قبل ذلك، وهو ما يعني احتمال تدخلهم وإن بشكل غير مباشر في وَأْدِ انتفاضة السويداء إذا ما اقتضت الضرورة.
عوّل بعضُ معارضي النظام الحالمين على انتفاضة الساحل، وهذا تبسيط مخلّ لتشكيلة الساحل السياسية والديمغرافية، وتجاهل لطبيعة المؤيدين على اختلافهم الديني والإثني والسياسي، وهي أمانيّ أكثر منها حقائق موضوعية؛ فهم أي المؤيدون ليس فقط لا رغبة لديهم في التغيير الخَطِر، بل لا قدرة لهم عليه. الدماء المهدورة وحجم الجرائم المرتكبة بحق الآخرين، لا تعطيهم أي فسحة تفكير في خيارات أخرى أو حتى وقتاً كافياً للحوار مع الأطراف الأخرى لترتيب انتقال السلطة دون انهيارها وانفجارها ثمة حلقات لا متناهية من العنف والعنف المضاد. لقد نجح النظام في توريط المؤيدين في العنف ضد السوريين، وسمح لهم بمزيد ومزيد من العنف والمجازر ضد السوريين، لقطع طريق العودة عليهم، وربط مصيرهم بمصيره، وهي حقيقة أصبحت واقعة، وليس حلّها بالهيّن. وتفجير الكلية العسكرية مثال واضح لما يمكن تداوله بين المجتمعات المؤيدة عموماً والعلوية خصوصاً من ضرورة شدّ عصب الطائفة حول النظام وعدم التهاون في دعمه، وأن التضحية من أجل الأسد هي لحماية نفسه وعائلته وأولاده.
المؤشرات تقول إن النظام مطمئن إلى حاضنته الصلبة رغم كل المعاناة، كما أن القوى المتصارعة في سوريا حريصة على هذا الوضع أيضاً
لا شك أن المجتمعات السورية التي تحت سيطرة النظام تغلي، ولكن لا مؤشر ملموس على انفجارها. والمؤشرات تقول إن النظام مطمئن إلى حاضنته الصلبة رغم كل المعاناة، كما أن القوى المتصارعة في سوريا حريصة على هذا الوضع أيضاً. والمشرف العام (الولايات المتحدة الأميركية) لا تزال تضع تجربة انهيار النظام العراقي ومآلاته نصب عينيها، وحريصة ألا تتكرر التجربة.