يبدو أن حظر الحديث عن مسلسل ابتسم أيها الجنرال في الأوساط الموالية قد رفع، وبدأ بعض الفنانين السوريين الموالين بإبداء رأيهم في التجربة الدرامية الأكثر إثارة للجدل في هذا الموسم الرمضاني؛ أقله على المستوى السوري. وأظهرت الآراء اتفاق المتحدثين ومن بينهم الممثل باسم ياخور والممثل عارف الطويل على وصف التجربة بأنها تجربة تقع "خارج المنطق الفني" دون أن نفهم حقيقة ما الذي يجعل تجربة فنية ما تقع داخل أو خارج المنطق الفني، هل هو الإشارة مثلاً إلى أن الأحداث الدرامية متخيلة بالكامل وليس لها صلة بالواقع أو التاريخ وغياب شرط الزمان والمكان عنها، يجعل منها تجربة خارج المنطق الفني؟ ألم يحدث هذا في مسلسل "العربجي" نفسه الذي يؤدي بطولته الفنان باسم ياخور؟ إذ يمكن للمشاهد أن يلحظ ما كتب "بالمانشيت" العريض قبل بداية كل حلقة "أن أحداث وشخصيات المسلسل متخيلة ولا تحاكي أي مرحلة تاريخية" على الرغم من استناد نص المسلسل الدرامي بالكامل إلى عناصر البيئة الشامية إن كان في الشكل العمراني أو في الأزياء أو في اللهجة وأبعد من ذلك السياق المديني لمجتمع داخل السور الذي حمل كل جملة الصراع الدرامي والمتمثل بالطبع بطبقة التجار الدمشقية وملامح سوقها وإشكاليته.
في منهجيات الكتابة الدرامية للسينما والتلفزيون والمسرح من الممكن الاستغناء عن شرط المكان والزمان في الحكاية واختيار زمان ومكان خاص بالحكاية شريطة أن تبقى الحكاية معنية بعمق زمانها ومكانها المتخيل
إذاً ما الذي يجعل "العربجي" مثلاً يدخل المنطق الفني ويخرج "ابتسم أيها الجنرال" من تلك الدائرة، إن كان كلا العملين يفتتحان حلقاتهما بهذا الإرشاد بأن كل ما سيشاهده المتلقي هو متخيل ولا رابط بين الحدث المتخيل والواقع سوى المصادفة. في منهجيات الكتابة الدرامية للسينما والتلفزيون والمسرح من الممكن الاستغناء عن شرط المكان والزمان في الحكاية واختيار زمان ومكان خاص بالحكاية شريطة أن تبقى الحكاية معنية بعمق زمانها ومكانها المتخيل، وأن تكون موضوعية ومرتبطة بشكل وثيق تجاه هذين العاملين المهمين، أي إن الحكاية يمكنها أن تعيش وتزدهر وتحتدم وتتصاعد في سياق زماني ومكاني غير محدد لكنها تنتمي بشكل منطقي إلى زمانها ومكانها، مثلما عاشت وتفاعلت حكاية مسلسل "صراع العروش" على سبيل المثال أو سيد الخواتم والقائمة تطول، إذ لا مكان ولا زمان محدد لكنها حكاية مشدود وثاقها بشدة إلى زمانها ومكانها.
بالمقابل يمكن الاستغناء عن الزمان أو حتى عدم تعيينه بدقة والإبقاء على المكان وتحديده بدقة بل ويمكن أن يكون المكان هو المحرك الفعلي لعجلة الصراع الدرامي، وكذلك سوف تعيش الحكاية وتتسع، كسلسلة "سقوط لندن وسقوط البيت الأبيض" من بطولة جيرارد بتلر أو أفلام "الويسترن" الغرب الأميركي الفنتازية. إذاً في حالة الاستغناء عن الزمان أو المكان أو كليهما معاً والتمسك بالحكاية وشد شخصياتها إلى زمانها ومكانها المتخيلين لا يخرج العمل الدرامي من دائرة المنطق الفني. وهذا ما يجعل انطباعات بعض الفنانين الموالين على مسلسل ابتسم أيها الجنرال مهزوزة ومربكة وحتى غير منطقية.
غياب الرقابة يستحضر المسؤولية الإبداعية:
تحدث الكاتب سامر رضوان عن خشيته من غياب الرقابة وعن ذلك الكم اللامحدود من الحرية في اشتغاله على حكاية مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" لكن غياب مقص الرقيب لا يعني التحرر من المسؤولية الإبداعية والتوجه للمتلقي بذكاء وحرفية، كان من السهل جدا على الكاتب أن يسمي الأشياء كما هي ويشير لنا بالبنان ونحن خير العارفين إلى واقع هذه الأسرة المتسلطة بأسمائها وبشارها وماهرها وضباطها، لكن خيار كهذا سينطوي على كثير من الاستسهال وعلى استخدام أقصر الطرق لمخاطبة مجالنا الانفعالي وليس التفاعلي، لذلك حضرت المسؤولية الإبداعية لتوظيف الوثيقة دون الإفراط باستخدامها والبناء على حقائق لكن دون تقليص مساحة الخيال والحذر من التوجه إلى جمهور محدد فهو ليس مسلسل "المعارضة" هو مسلسل سوري يتوجه إلى كل من يفهم اللهجة السورية.
استعار "رضوان" تقنيات الكتابة من مسرح الواقعة وشرع في منح الوثيقة السياسية ملامح وعوالم درامية دون أن ينزلق إلى ما يسمى الدراما الوثائقية
والسؤال هنا هل هناك من منهجية استند إليها "رضوان" لبناء حكايته بإخلاص للخيال وانحياز للدراما دون إغفال مراجع حكايته السياسية؟ أظن أن الجواب عن هذا السؤال يكون بمحاولة فهم السبب من وراء هذا التمويه الزماني والمكاني لحدث درامي شخوصه يرمزون لشخصيات حية معاصرة وما زالت تمارس أفعالها بالتزامن مع أفعال الشخصيات الدرامية. فالحدث الدرامي هنا ليس تاريخياً بالكامل ولا درامياً متخيلاً بالكامل. وأرجح أن "رضوان" استخدم تقنيات كتابة خاصة لمعالجة حدثه الدرامي المشتبك مع الحدث السياسي المعاصر، ليس بوصفه حدثاً سياسياً فقط بل بوصفه حدثاً وشخوصاً معاصرين لا بد من منحهم بعداً درامياً خاصاً لتعيش الحكاية وتستمر وتتفاعل؛ وتخرج من إطارها السياسي والصحفي الاستقصائي وتأخذ مكانها كحكاية درامية. وهذا عمل في جهد كبير ومقاربات مرسومة بحذر، هذا التكنيك في الأصل هو تكنيك مسرحي بما يسمى مسرح الواقعة والكتابة لهذه المدرسة المسرحية تشترط المزامنة، أي تزامن الحدث المعاصر للحدث المسرحي ومحاولة الإجابة عن الإشكاليات السياسية عبر المسرح. ميزة هذا النوع من الكتابة وقيمتها تأتي في الأساس من مجاراة المعاصر الذي يحدث وفق شرطه الواقعي بينما تتوغل الكتابة نفسياً ودرامياً في الواقعة، استعار "رضوان" تقنيات الكتابة من مسرح الواقعة وشرع في منح الوثيقة السياسية ملامح وعوالم درامية دون أن ينزلق إلى ما يسمى الدراما الوثائقية. يولي "بيتر فايس" المنظر الألماني والمؤسس لحركة مسرح الواقعة أدبياً وفنياً يولي الحدث أهمية خاصة، فترى الحدث والحبكة تتقدم على بناء الشخصية الدرامية المركبة، والمتابع سوف يلاحظ أن الشخصيات الرئيسية في المسلسل لا تعيش صراعات داخلية متشعبة وبأنها منضبطة انفعالياً. وهذا يدلل على اعتماد "رضوان" على أسلوبية الواقعة لمنح الحدث والحبكة الحضور الأكبر ويحافظ على عوامل المتابعة والتشويق. وهذا خلافاً لأسلوبيته المعروفة وشغفه في نسج شخصيات شديدة التركيب وحادة الانعطافات مثل شخصية "عامر" في مسلسل لعنة الطين التي أداها الممثل "مكسيم خليل" بطل مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" وكذلك شخصية المقدم رؤوف في مسلسل "الولادة من الخاصرة" التي أداها الممثل عابد فهد نجح الكاتب "سامر رضوان" باستخدامه لهذه التقنية المسرحية وتطويعها في الكتابة الدرامية التلفزيونية وفي الإبقاء على الحكاية حية وحيوية ودرامية بما يكفي لتحافظ على شروط استمرارها وتحتفظ بمزاياها التشويقية حتى النهاية. لذلك وبناء على ذلك فالمسلسل لم يكن مباشراً ولم يكن غامضاً أو ترميزاً أيضاً، كان درامياً بما يكفي وتوثيقاً في الحد الذي يخدم الحكاية لم يكن مسلسلاً موجهاً لجمهور بمزاج سياسي معين لكنه رفع مزاج هذا الجمهور ذي التوجه المعين وتجاوزه إلى مختلف الشرائح والأذواق والأمزجة. والأهم أنه لم يكن خارج المنطق الفني، بل في صلب المنطق الفني الشغوف بالبحث واجتراح حلول نوعية للقصة الدرامية والمنطق الفني الذي يتجنب الاستسهال والتسليع واجترار الحكاية والصراعات ذاتها.