هل حسم الصراع على النفوذ في العالم؟

2024.10.03 | 07:04 دمشق

5666666666
+A
حجم الخط
-A

تظهر التحولات الاستراتيجية الجديدة في الشرق الأوسط، التأثير الكبير الذي تلعبه القوى الإقليمية على الصراع الدولي بين من يحاول تشكيل نظام عالمي جديد وآخر يريد الإبقاء على النظام الحالي.

بما يحمله من مميزات الهيمنة على النظام الدولي، وعلى منظماته الأممية، التي من المفترض أن تحمي السلم والأمن العالميين، لكنها لم تستطع النجاح كثيرًا كما في حالة سوريا، وقبلها العراق وغزوه من قبل أميركا مستندة إلى ادعاءات كاذبة بشأن امتلاكه لأسلحة دمار شامل، وقبلها قضية فلسطين، وقتل وتهجير شعبها الذي نراه على الشاشات الآن في غزة وفي الضفة الغربية.

في المقابل، لم ينجح دعاة تغيير النظام العالمي الجديد في تقديم نسخة مختلفة، تجعل العالم أقل حروبًا وجوعًا، وأكثر سلامًا ورخاءً، بل انخرطوا في حروب مباشرة لدعم المستبدين القتلة من حلفائهم، مثل بشار الأسد، وشجعوا على الانقلابات العسكرية بطريقة فجة مثل الانقلابات في أفريقيا. فإن كانت قوى العالم التقليدية المهيمنة الآن قد دعمت - بطرق مستترة - وفضلت الأنظمة المستبدة على الديمقراطية لتحقيق مصالحها، إلا أن القوى الصاعدة تقدم نموذجًا أقل حساسية للديمقراطية وحقوق الإنسان، فالأمة هي المقدمة على الديمقراطية، ومصالح الأمة يحددها نظام الأب الراعي، بوتين أو شي جين بينغ أو كيم جونغ أون، أو خامنئي أو... إلخ، حيث لا يرون إلا ما يراه هو، وهو من يهديهم "سبيل الرشاد".

بينما لا يزال النظام العالمي القديم يمثل أفضل نموذج سياسي للحكم وُجد على سطح الكرة الأرضية حتى اليوم، نظام الديمقراطية وحقوق الإنسان، واستقلالية وقوة القضاء والصحافة الحرة، حتى على رؤساء أكبر وأقوى دولة في العالم حاليًا، فالصحافة الحرة أجبرت نيكسون بعد فضيحته على الاستقالة، ليصبح الرئيس الأميركي الوحيد الذي يستقيل قبل انتهاء مدته، والقضاء المستقل أجبر الرئيس السابق ترامب، على المثول أمام القاضي والانخراط في محاكمات عديدة بقضايا مختلفة تشمل التهرب الضريبي والتحرش وغيرها.

الوحشية التي شهدناها من نتنياهو في تعامله مع غزة طوال العام الماضي، انتقل بها إلى الشمال، وبدأ بجس النبض شيئًا فشيئًا، إلى أن وصل إلى حرب شبه شاملة على حزب الله.

صعود الميليشيات وسقوط الدولة

عمل النظام الإيراني بسعادة وجهد من أجل تدمير مؤسسات الدول التي دخل إليها، وأنشأ بدلاً عنها مؤسسات موازية، على شكل ميليشيات، وجمعيات اقتصادية، ورجال أعمال، يتبعون للحرس الثوري، وينفذون برامج وأهداف النظام، وأصبحوا خط دفاع أول عن نظامه، معتقدًا أنه في هذا التوسع - على حساب الداخل - يمكنه تحقيق أوهام إمبراطورية مزروعة برأس بعض قادته.

ومع الوقت، تحولت هذه الميليشيات إلى عبء على الدولة الإيرانية، فكان جزء كبير من الدخل القومي الإيراني يذهب لتغذيتها، ومع التضييق الاقتصادي الذي قام به ترامب، اضطرت هذه الميليشيات للعمل في تجارة الكبتاغون، مما جر عليها نقمة وغضب كثير من الدول، فبعد أن كان تدخلها في شؤون الدول الأخرى أمرًا لا يعنيهم، أصبحت تجارة المخدرات وأقراص الكبتاغون مسألة أمن قومي لهم، وبدأ يتصاعد الغضب من الميليشيات الإيرانية، وبنفس الوقت بدأ التحول في عقلية تلك الميليشيات، من الالتزام العقائدي إلى المصالح والمنافع المالية، وهو ما جلب الاختراق على حزب الله مؤخرًا، والذي تسبب له بالكوارث، وكان آخرها اغتيال أمينه العام، ومجموعة من قيادة الحزب العليا مع قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في لبنان.

كان لتدخل إيران إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا نقطة أخرى زادت من غضب الغرب ونقمتهم على هذا النظام، وازدادت العقوبات عليه، بما لا يؤثر على أسعار النفط، وبالتالي غضب شعوب الغرب على حكامها.

ثم جاءت عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول لتضع تاج الغرب في خطر وجودي، وتم تحميل التمدد الإقليمي الإيراني السبب، فإن كانت إيران تعلم بالعملية مسبقًا، ووافقت عليها، فتلك مصيبة، وإن لم تكن تعلم، فتلك مصيبة أكبر. فعلمها بهذه العملية يعني مشاركتها في تحمل المسؤولية، والعكس يعني أنها لا تستطيع السيطرة على أذرعها في المنطقة.

التوحش للردع

كانت إسرائيل واضحة من البداية، في سعيها لاستعادة الردع عبر التوحش، وتدمير الخصم بأقصى قدر من القوة النارية لردع الآخرين في المستقبل عن التفكير في استهدافها. وهذا ليس اختراعًا إسرائيليًا بحتًا، فقد شاركها بهذه الطريقة كثير من المستبدين، وعلى رأسهم بشار الأسد، الذي قتل الشعب السوري وهجره دون أي رادع، ودون أي اعتراض حقيقي من المجتمع الدولي.

اعتمدت إسرائيل على دعم غير مطلق من قبل دول الغرب، وعلى رأسها أميركا، التي نشرت قوات رادعة في المنطقة تجعل من لديه عقل يفكر مرتين قبل الإقدام على أي خطوة عسكرية. وهذا ما انتبهت له إيران، وراعته بشدة، تاركة الميليشيات التي أسستها على دماء شعوب المنطقة، وما تبقى من ركام دولها لمصيرها، محاولة النأي بنفسها، وحصد نتائج عبر مفاوضات سرية مع الأمريكان.

الوحشية التي شهدناها من نتنياهو في تعامله مع غزة طوال العام الماضي، انتقل بها إلى الشمال، وبدأ بجس النبض شيئًا فشيئًا، إلى أن وصل إلى حرب شبه شاملة على حزب الله، وقضى على معظم قيادة الحزب وعلى رأسهم أمينه العام التاريخي حسن نصر الله.

هل كانت حسابات نصر الله خاطئة؟ هل دفعته للتردد باستخدام أسلحته الرادعة، كالصواريخ الاستراتيجية والدقيقة التي لطالما تغنى وهدد بها وترك حماس لمصيرها رغم علمه أنه التالي على اللائحة؟ هل اعتقد أن الضغوط الدولية، وصمود حماس - خصوصًا مع عدم استطاعة نتنياهو حتى اليوم استعادة أسراه، أو إلقاء القبض أو قتل السنوار - كفيل بإغراق نتنياهو وانقلاب الشعب عليه وخروجه خارج المعادلة السياسية؟ أم أنه لم يحسب حسابًا للاختراق المخابراتي، والذي كان واضحًا منذ البداية من خلال اصطياد عناصر حزبه في الأزقة والطرقات والشقق السكنية؟ أم أن الضربات الإسرائيلية أضعفت قوته وقدرته واستطاعت احتواءه؟ أم أن الحزب كله كان وهماً بوهمٍ، ولم يكن يمتلك هذه القوة التي عمل الإعلام - الصهيوني قبل غيره - على تعظيمها وتقويتها؟

يقال سُئلَ عنترة بن شداد يومًا ما، ما هو سر شجاعتك؟ فقال: كنت آتي إلى الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة التي يطير لها قلب الشجاع، فأثني عليه فأقتله. فهل هذا ما عملت عليه إسرائيل؟ تعظيم قوة أعدائها، لكي تضربهم ضربة تقنع الشعوب بقدرتها الهائلة وتلقي الخوف في قلوب أعدائها؟

هل يمكن القول بأن النظام العالمي الجديد الذي كان يبشر به قادة هذا المحور (المقاومة) وحلفاؤهم الشعبويون في روسيا وتركيا وغيرها.

هل تهاوى النظام الجديد؟

تحت وطأة ضربات إسرائيل لميليشيات إيران، وتخلف الأخيرة عن مساندة أذرعها، واستمرار صمتها، قد تندفع الميليشيات لحساب خطواتها أكثر. فقد نقلت صحيفة "الشرق الأوسط" عن مصادر عراقية أن رئيس الوزراء العراقي طلب من شخصيات عراقية التوسط، وكبح جماح الفصائل، ومنعها من التورط في الحرب الدائرة بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، خصوصًا بعد تداول معلومات بأن إسرائيل حددت 35 هدفًا عراقيًا.

وكذلك فعل نظام الأسد الصامت صَمْت الأموات، والذي لم يدعم محور إيران حتى بتصريحات إعلامية مساندة.

وحتى مع الضربة الإيرانية الصاروخية الأخيرة على إسرائيل، كان واضحًا أن إيران تسعى لمحاولة استرداد الحاضنة الشعبية التي تخلت عنها، وبنفس الوقت، كانت الضربة رسالة إلى إسرائيل كي تحيّدها عن مسار تغيير الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وهذا ما فهمته من خلال الاغتيالات التي نفذها الاحتلال، سواء عبر قتل إسماعيل هنية على أراضيها، أو التسريبات بأن الرئيس الإيراني السابق قد قُتل بأيدٍ إسرائيلية، أو قتل حسن نصر الله وكوادره القيادية من الصف الأول والثاني والثالث.

وهي إشارة بالغة الدلالة على أن الخطوط الحمر لم تعد موجودة، وأن موازين القوى في المنطقة مختلة بشكل كبير لصالح إسرائيل، وأن المعادلات الجديدة التي حاول البعض إرساءها خلال السنوات العشر الماضية لم تعد موجودة.

ومع غرق روسيا في أوكرانيا، هل يمكن القول بأن النظام العالمي الجديد الذي كان يبشر به قادة هذا المحور (المقاومة) وحلفاؤهم الشعبويون في روسيا وتركيا وغيرها، فشل في الوصول إلى عتبة النظام العالمي القديم المستقر؟ وهل سعي إيران لتحقيق قنبلتها النووية سيحمي نظامها المتداعي، ويمنحها القوة والمنعة؟ أم يمكن القول "كان غيرك أشطر"، فلم تنفع قنابل روسيا النووية في حمايتها من احتلال جزء من أراضيها في كورسك؟

أحيانًا يشكل فائض القوة عبئًا على صاحبه أكبر من منفعته.