بغض النظر عن تراجع تأثير الأديان في الحياة السياسية عموماً إلا أنَّ رموز المتدينين كافة لا يزالون يحظون بشيء من الاحترام في مجتمعاتهم، ولا تزال تلك الرموز تلعب أدواراً خلفية في الحياة السياسية لبلادهم.. ويستطيع رجل الدين في الظروف الحرجة، وبما له من تأثير روحي على أفراد مجتمعه، أن يمد رأسه مساهماً في تعديل هذا المسار السياسي أو ذاك باتجاه ما، وبخاصة إذا كان مجتمعه واقعاً في ضيق ما، ويعكس أوضاعاً اجتماعية سيئة، كما هو الحال اللبناني اليوم الذي وصل إلى طريق مسدود، وينذر بأمور خطيرة لعلها أكبر بما لا يقاس مما هي عليه الآن. وواضح أنَّ الأسباب العميقة تعود إلى "حزب الله" المسؤول الأول عما آل إليه لبنان من خراب اقتصادي، وبؤس اجتماعي لا ينعكس في تردي قيمة الليرة اللبنانية، ونفاد الاحتياط المالي من البنك المركزي فحسب، بل في الأوضاع المعيشية، وفي قطاع الخدمات العامة التي لا غنى للمواطن عنها في عالمنا الحديث كالماء والكهرباء والوقود والخبز ولقمة العيش.. ولعلَّ الحدثيْن (الجريمتين) الكبيرين الأخيريْن زادا من حدة الاختناق اللبناني: شعباً، وحكومة، وتيارات سياسة، وطوائف أيضاً.. وأعني بهما تفجير مرفأ بيروت، واغتيال لقمان سليم الذي ساهم قلمه الحر وفكره الوطني المستنير بفضح من يقف وراء تفجير المرفأ من الألف إلى الياء أي بدءاً بمن جلب المواد المتفجرة، ومن قيل إنه ترك السفينة "المعطلة" في المرفأ، ومن خزن حمولتها، ومن نقل كميات منها إلى سوريا حاجة البراميل المتفجرة التي قتلت مئات الألوف، وهجرت الملايين، وهدمت آلاف البيوت السكنية.. وإضافة إلى الحدثين المذكورين انكشاف الجهة السياسية التي ينتمي إليها المواطن اللبناني الذي أدانته المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء الأسبق الشهيد رفيق الحريري! فقد تلاحقت هذه الأحداث لتدعم الحراك اللبناني الذي انطلق منذ 17 تشرين الأول 2019 حين نزل الشباب اللبناني إلى الشارع، بعيداً عن أي توجه سياسي، أو طائفي، ليقول كلمة واحدة هي: كفى.. ولتفضح لصوصية الطبقة السياسية القائمة على توافق طائفي، ولتتحدث عن أوجاع المجتمع اللبناني مطالبة بدولة ديمقراطية فعلية تمثل الشعب مباشرة دونما وسطاء يستغلون طوائفهم زاعمين حمايتهم وقد أشارت تلك الحركة الشبابية إلى أن لبنان كان على مدى القرن العشرين مستقلاً في سياسته، يعيش في ظل اقتصاد نام وعيش مريح، والأهم أنه جزء من محيطه العربي، ولم يكن ليقع تحت نفوذ الأجنبي كما حاله اليوم.. لكنه، ومنذ النصف الثاني من عقد السبعينيات، واشتعال الحرب الأهلية، والتهديدات الإسرائيلية التي كانت تأتيه بسبب تصاعد الدور السياسي للحراك الوطني الذي شهده، ولوجود منظمة التحرير الفلسطينية، ثم ليأتي التدخل السوري، ليلعب دوراً سلبياً تجاه الحركة الوطنية اللبنانية التي انبثقت عنها مقاومة وطنية مستقلة. لا تنتمي لأية دولة خارجية، ولا تستعلي على الدولة والمجتمع اللبناني.. لكن إسرائيل تمكنت منها وبأياد عربية ليتفرد، بعدئذ، "حزب الله" بالمقاومة وكالة حصرية.. ثم ليتمدد في لبنان جاعلاً منه مقراً وممراً، في الوقت نفسه، لدولة الولي الفقيه في إيران التي خربت حتى الآن عدة دول عربية كانت تشكل هاجساً لإسرائيل لا بحكامها طبعاً، بل بشعوبها ومقدراتها وآفاق نموها وتطورها..
اليوم والأفق اللبناني مسدودة سبله، يجد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي نفسه مضطراً للدخول على خط السياسة اللبنانية مباشرة
اليوم والأفق اللبناني مسدودة سبله، يجد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي نفسه مضطراً للدخول على خط السياسة اللبنانية مباشرة، وليعلن: "إننا نواجه حالة انقلابية في كل الميادين في لبنان" دون أن يذكر حزب الله وحلفاءه بالاسم، داعياً إلى مؤتمر دولي من أجل لبنان مبرراً دعوته بـ "إعلان حياد لبنان"، وتجنب انقسام اللبنانيين، وقد عدَّ اختيار "نظام الحياد" هدفاً غايته الحفاظ على الكيان اللبناني. ولفتت كلمة البطريرك إلى أنَّ "كل الحلول الأخرى في لبنان بلغت حائطاً مسدوداً"، ويتابع قائلاً: "وبعدما تأكدنا أن كل ما طرح رفض لكي تبقى الفوضى وتسقط الدولة، ويستولى على السلطة." (في إشارة منه إلى فشل سعد الحريري في تشكيل حكومة مستقلة عن الأحزاب والطوائف، وتتوافق مع من يريد أن يساعد لبنان..) وكان البطريرك قد وجه كلمته أمام حشد من اللبنانيين الشباب، وبحضور رجال دين مسيحيين ومسلمين.. وأفاد البطريرك الراعي بأنه لو تمكن السياسيون من إجراء حوار مسؤول لما طالبنا بعقد مؤتمر دولي برعاية أممية، لكننا لا نقبل أن يجوع الشعب، ويعيش الفقر. وانتقد ما يسمى بالمقاومة التي تنفرد عن الجيش، وأوضح أنَّ "عظمة حركات المقاومة أن تعمل في كنف الدولة"، وأكَّد "أين نحن من هذا؟"، ونبه اللبنانيين إلى عدم السكوت عن السلاح غير الشرعي، وعن فساد السياسيين، وعن الانقلاب على الدولة والنظام، وعدم تأليف الحكومة، وعدم إجراء الإصلاحات. كما أكد أن الشراكة المسيحية الإسلامية في لبنان غير قابلة للمس، وقد قاطعه المشاركون برفع شعارات "الشعب يريد إسقاط النظام"، "ارحل ميشيل عون"، و"حزب الله إرهابي".
قد يرى بعضهم أن مثل هذا المؤتمر الدولي يعدُّ تدخلاً في الشأن اللبناني الداخلي.. لكن العكس هو الصحيح فهذا المؤتمر حاجة موضوعية لوضع لبنان على سكة السلامة من التدخل الحاصل الآن الذي يتباهى به زعيم حزب الله الذي يجد مقاومته في دعم حكومة الاستبداد في سوريا، وفي تسهيل المصالح الإيرانية خدمة لمشروعها المنتظر باستعادة الإمبراطورية الفارسية كما صرح الكثير من قادتها العسكريين..
والحقيقة أنَّ الكثير من الأنظمة العربية تحتاج إلى مثل هذا المؤتمر، وأولها سوريا التي عاشت ولا تزال تعيش العنف السياسي الذي صاحبه مجازر دموية على مدى خمسين عاماً بسبب فرد مستبد لايزال ابنه يرتكب القتل والسجن والتهجير والخراب الشامل وذل لقمة العيش.. إضافة إلى وجود جيوش لاتزال تمكِّن له، فيرفض أيَّ حل يستعيد للوطن المعتقل حريته وأمنه وسلامه، وإعادة إعماره.