ملامح الحراك السوري بعد زوال الأسد

2024.12.24 | 05:42 دمشق

آخر تحديث: 24.12.2024 | 05:42 دمشق

سقوط الأسد
+A
حجم الخط
-A

منذ صباح الثامن من الشهر الجاري، ومع أوّل شروق للشمس على سوريا الخالية من الأسد، تشهد العاصمة دمشق حراكاً سياسياً ودبلوماسياً -عربياً وإقليمياً ودولياً- تزداد وتيرته يوماً بعد يوم، وهذا يؤكّد على أن التحوّلات التي تجري في سوريا لن تنحصر تداعياتها على الجغرافيا السورية فحسب، بل ستترك آثارها على الكثير من دول الجوار أو الإقليم.

لقد كانت سوريا قبل أيام فقط مصدر خوف وحذر بالنسبة إلى الكثيرين، بل ربّما احتار بعض الجوار كيف سيتحاشى بمزيد من التقية ليتجنّب مخاطر (الزعرنة الإيرانية والكبتاغون) التي باتت الأرض السورية الميدان الأرحب لهذا الضرب من النشاط المشبوه أخلاقياً وإنسانياً، أمّا اليوم، فعلى الرغم من فداحة التَرِكة الأسدية المتمثلة بالخراب والبؤس وانعدام معظم مقوّمات الحياة الأساسية، إلّا أن الكثيرين يرون أن هذا الخراب يمكن ان يزول وتتعافى البلاد وتزدهر بهمّة السوريين وعزيمتهم، بل ربما اعتقد البعض أن تحرير سوريا من السلطة الأسدية هو الخطوة الأهم في التحوّل من سوريا (المزرعة أو العقار) إلى سوريا ( الدولة).

حيازة الثقة كسبيل لحيازة الشرعية

من جهتها تبدي السلطة الجديدة في دمشق تفاعلاً إيجابياً مع هذا الحراك، خاصة مع جانبه الخارجي، أي في التعاطي مع الوفود الخارجية ومندوبي الدول، والواضح أن من أولويات الفريق الحاكم هو حيازة الثقة من المجتمع الدولي تمهيداً لحيازة الاعتراف الشرعي بالسلطة الجديدة، وفي الوقت الذي كان من المفترض فيه أن يكون هذا المسعى يجري بالتوازي مع تفاعلٍ مماثل حيال الداخل السوري الذي ينتظر الكثير من حكومته الجديدة، إلّا أن واقع الحال يشير إلى قليل من البطء وربما التردّد في الانفتاح على الفعاليات السورية، السياسية منها على وجه الخصوص.

وربما تجلّى ذلك بوضوح بطبيعة التعيينات والتكليفات التي تظهر تباعاً لمسؤولين يمسكون بمفاصل هامة في قيادة الدولة، إذ إن معظم هؤلاء المُكلّفين هم من لون فكري وسياسي واحد، الأمر الذي ربما أثار الكثير من التساؤلات والهواجس، إذ إن هذا المنحى من السلوك لا ينسجم مع الخطاب الذي حاولت القيادة الجديدة تصديره سواء للخارج أو للداخل.

ويبرّر أصحاب تلك المخاوف توجّساتهم بأن هذا الاعتماد على لون أحادي من حيث المشارب الفكرية والسياسية ربما يوفّر ذريعة لمن يتهيأ لوضع العصي في العجلات، ويكون حافزاً لارتفاع المزيد من الأصوات التي لا تهدف سوى للضجيج من أجل التشكيك والتعطيل، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بمظاهرة خرجت في العشرين من الشهر الجاري في ساحة الأمويين بدمشق، لمجموعة من الشبان والشابات وهم يرفعون شعارات تتضمن مطالب بإقامة دولة علمانية وتعزيز حرية العقيدة وعدم فرض قيود على نشاط المرأة وسوى ذلك، علماً أن الكثير من خلفيات تلك المظاهرة ودوافعها وطبيعة القائمين عليها تثير المزيد من الشكوك بمصداقية القائمين عليها، بل تنسف مشروعيتها الأخلاقية والوطنية بآن معاً.

من جهة أخرى، ثمة من يرى أن مجمل ما يجري في حكومة (تصريف الأعمال) فضلاً عن مجمل التعيينات الوظيفية في مفاصل الدولة كالوزارات وإدارة المحافظات والمدن، إنما يأتي في سياق ثوري توجبه الظروف الراهنة التي لا تتيح المجال إلى مزيد من استمزاج الرأي أو مساحة واسعة من الاختيار، خاصة أن تلك العملية محدّدة زمنياً بثلاثة أشهر، لذا لا ينبغي أن تكون معياراً ثابتاً أو دائماً.

وربما ذهب البعض إلى أن هيئة تحرير الشام، ككيان عسكري ينحدر من منظومة إيديولوجية إسلامية تكاد تكون جسور الثقة بينها وبين معظم الفعاليات السياسية في البلاد شبه معدومة، وبما أنها هي التي أنجزت مهمّة التحرير التي أفضت إلى زوال نظام الأسد، فمن الطبيعي أن ترى ذاتها صاحبة الأحقية بتسيير دفّة الحكم، على الأقل في الظرف الراهن، وذلك ربما بسبب خشيتها من يكون أي انفتاح على الآخر قد يفضي إلى اختراقات في بنية السلطة التي ينبغي أن تحافظ على تماسكها وصلابتها في هذا الطور الثوري.

وبغض النظر عن نسبة الصواب في هذا الرأي، فإنّ ما يمكن التأكيد عليه هو أن هيئة تحرير الشام وبعض الفصائل التي شاركت معها في عملية (ردع العدوان)، لا تملك الكادر البشري اللازم والمؤهل لإدارة سائر المناطق السوريّة، ولعل هذا ما يفسّره بعض البطء في عودة الخدمات الأساسية على العديد من المدن والبلدات، ولا يمكن -بالطبع- إغفال ندرة الإمكانيات والنقص الكبير في المقوّمات المادية لتفعيل الجانب الخدمي كالنفط والمياه والكهرباء ومخزون القمح وسوى ذلك.

ولعله من نافل القول إنّه لا يمكن تجاوز الإرث الأسدي من الخراب والنهوض بالواقع الخدمي وتحقيق تحوّل نوعي في هذا السياق من دون دعم عربي أو إقليمي يمكّن الحكومة الجديدة من الوقوف على مهامها بشكل سليم.

استحقاقات ينتظرها السوريون

على الرغم من تعدد آراء السوريين واختلافهم في تقييم المرحلة الراهنة، إلّا أن الجميع ينظر بترقّب إلى حلول شهر آذار، ليكون الجميع أمام ثلاث محطّات، كانت قد وعدت بها قيادة إدارة العمليات العسكرية، ويمكن أن تكون هذه الاستحقاقات بمثابة امتحان أول لمصداقية الخطاب السياسي للحكومة الجديدة:

  • تشكيل حكومة تكنوقراط، لا تحكمها سوى معايير الكفاءة والمهنية، ولا تُستبعدُ منها فئة مجتمعية بدافع العرق أو الدين أو المذهب.
  • عقد مؤتمر وطني عام، تدعى إليه جميع الفعاليات السياسية والإجتماعية والاقتصادية والقانونية، ومن كلّ المكونات السورية، بهدف الحوار واستمزاج توجّهات السوريين وآرائهم حول طبيعة الدولة التي يتطلعون إليها وما يتفرّع عن ذلك من تفاصيل تستوجب المزيد من استماع كل طرف للآخر، إلّا أن التساؤل الذي ما يزال قائماً: هل تشكلت اللجنة التحضيرية للمؤتمر العام من أكثر من طيف سوري وفقاً لمبدأ المشاركة، أم أن القيادة الجديدة هي من بادرت بتشكيلها؟.
  • كتابة دستور جديد للبلاد، أو تعديل الدستور القائم، والذي من المفترض أن يكون هو العقد الاجتماعي الناظم لعلاقة المواطن بالدولة، وفي هذه الخطوة سيتوضح الكثير ممّا يرقبه السوريون حول ملامح دولتهم التي يتطلعون إليها.

وأيّاً كان الشأن، فإن ما يعيشه السوريون من حراك سياسي وحوارات ساخنة تنوس بين التفاؤل والتوجّس، إنما  يجري في سياقه الطبيعي، بل ربما يجسّد الحالة التي كان يحلم السوريون بممارستها، للتعبير عن آرائهم وحقّهم في المساهمة بصياغة مستقبلهم.

ولا ينتقص من هذه الحالة ازدحام المطالب وربما الاستعجال ببعضها، فذلك أمر في غاية المشروعية، مع ضرورة الانتباه دوماً إلى أن اللهفة العارمة نحو الديمقراطية التي حُرمَ منها السوريون والمثابرة على المطالبة بالحقوق، إنما توجب في الوقت ذاته إجماعاً على دعم مؤسسات الدولة ووحدة بنائها وازدياد تماسكها، لأن الدولة المترهّلة لا تملك أن تمنح مواطنيها ما يريدون.