تكرس الأنظمة الشمولية عموماً مشاكل مستعصية في البلاد التي تستولي عليها، حيث تربط في النهاية مصير البلاد بمصيرها، حتى لو كان هذا المصير التفتيت والدمار. فمن خلال خنقها الأصوات الناقدة، وممارسة الرعب بمواجهة أي رأي معارض، يتهرب الناس من الحديث في القضايا العامة ويصبح الحديث سراً، وهو ما يهيئ لبيئة سياسية تمهد للدمار وفتح الباب أمام مصير مجهول للبلاد. هناك تجربتان معاصرتان لما آلت إليه هذه النظم الشمولية وكيف أوصلت البلاد إلى حالة من التفتيت والتقاتل، وكيف مهدت الطريق لأن تسعى الجماعات السكانية إلى البحث عن حامٍ أجنبي، وكيف استغل الغرب هذا الحال لتكريس حالة من التبعية ونهب البلاد بالاشتراك مع النخب الجديدة الحاكمة أو سلطات الأمر الواقع.
تسلمت نخب فاسدة الحكم، غالبها من بقايا الحزب الواحد العقائدي، نخب سعت بكل ما تمتلك لأن تجني أكبر مقدار من الثروة مقابل رهن البلاد وحتى بيعها
الحالة الأولى هي دول شرق أوروبا التي تخلصت بشكل سلمي من أنظمتها الشمولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أوائل التسعينيات من القرن الماضي، حيث تهاوت خلفه تلك الأنظمة المرعبة وكأنها هياكل كرتونية، رغم كل الجبروت والقهر اللذان كانت تدعيهما. ولأسباب سياسية تمكن الغرب من منع اندلاع حروب ضمن تلك الكيانات، بينما ترك لها المجال لتنفجر في يوغسلافيا طيلة ثلاثة أعوام، حيث راح فيها عشرات آلاف الضحايا بحروب عرقية ودينية وصلت حد الإبادة، ولا تزال آثارها مستمرة حتى اليوم. وفي حالات أخرى كان التقسيم هو الحل، كما هو في تشيكوسلوفاكيا التي غدت دولتين (التشيك وسلوفاكيا)، ونتيجة لذلك تسلمت نخب فاسدة الحكم، غالبها من بقايا الحزب الواحد العقائدي، نخب سعت بكل ما تمتلك لأن تجني أكبر مقدار من الثروة مقابل رهن البلاد وحتى بيعها.
الحالة الثانية، هي ثورات الربيع العربي التي انطلقت آواخر عام 2010 وبدايات 2011 في البلاد ذات أنظمة الحكم "الجمهوري"، وهي الأنظمة التي كانت تدعي "العلمانية" والتي كانت ذات يوم تدعي الديمقراطية والاشتراكية، ادعاءات تبخرت من خلال اتباع سياسات تحرر اقتصادي متوحش تبيع من خلالها أصول البلاد وتتشارك في كثير من ملكيتها بواجهات مزيفة، ومن ناحية أخرى تحكم عبر الحزب الواحد، وهياكل لأحزاب هلامية يمكن أن تشارك بالديكور إن طلب منها، لكن في حقيقة الأمر، كان الحكم الحقيقي للمخابرات والعسكر. لم يختلف مصير الثورات العربية كثيراً، فرغم نجاحها في تونس ومصر، إلا أن ثمة قوى لن تسمح بأن تنعم البلاد هذه بحياة من الاستقرار والديمقراطية. أما في بقية البلدان وخاصة سوريا واليمن وليبيا، وتحت الدافع نفسه، وهو عدم السماح بقيام كيانات ديمقراطية موحدة، سعت القوى المتدخلة بكل ما تملك إلى تفتيت هذه البلاد وتحويلها إلى ساحة لتصفية حساباتها وموضوعا لمساوماتها.
عند التفكير في المصير الذي وصلت إليه البلاد في كلتا الحالتين، فرغم الاختلاف الكبير بينهما لعوامل عدة، أهمها في الحالة الأولى هو الجوار لأوروبا والاشتراك معها في الديانة، فصحيح أن الدول الغربية علمانية في قوانينها، لكن ثمة عامل خفي من الخلف يوجه بشكل ما سياسات تلك الدول، وهو الدين، وهذا لا يلغي دور المصالح. أما مع الثورات العربية، فلأمر مختلف، فما يسعى إليه الغرب في المنطقة تحكمه عوامل ومصالح مختلفة تتصدرها أمن إسرائيل وحماية مصالح الغرب في المنطقة كمصدر للنهب من جهة، ومن جهة أخرى ألا تتحول إلى مصدر للهجرات وما تحمله من تبعات شتى على الدول الأوروبية، فكان خيارها مزدوج، فمن جهة دعم الأنظمة الاستبدادية التي يمكنها أن تخنق الشعوب وتؤمن "الاستقرار" بالقوة، ومن جهة أخرى تفتيت الكيانات القائمة إلى كيانات أصغر على أسس مختلفة تلهث خلف الراعي والداعم، وبالتالي منع قيام حكم ديمقراطي فيها.
الملاحظ في مصير كيانات الحالتين، دول أوروبا الشرقية سابقاً، التي شجعها الغرب على الخلاص من نظام الحزب الواحد ضمن معركته الاستراتيجية لهزيمة الخصم "الشيوعي" أنه حولها إلى دول حراسة (Watch-dog states)، مهمتها حراسة أوروبا الغربية من تدفق اللاجئين مقابل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، والشراكة مع نخبها الفاسدة في نهب ثروات البلاد ضارباً عرض الحائط بقيمه الديمقراطية المؤطرة وفق منظومة معينة لا يمكن الخروج عنها، حيث تدعم وتمول تلك الدول بالمال والمعدات والتدريب لقمع ومنع تدفق المهاجرين القادمين من الدول التي شهدت الثورات العربية بعد المآل الذي وصلت إليه، إضافة لمهاجرين من بلدان أخرى وخاصة أفغانستان وهي البلد الذي دمرته الولايات المتحدة وسلمته مؤخراً لحركة طالبان تاركة البشر لمصيرهم حيث الفقر والقهر، حيث لا يبقى أمامهم سوى الفرار نحو طرق الموت.
إن مراقبة الحال في دول الحراسة تلك، وكيف تطفح بحركة الهاربين من ممالك الظلام على الضفة الأخرى تدفع المرء للتفكير جدياً في البحث عن آليات أخرى لتحصيل الحقوق
لا يتحمل الغرب وحده مسؤولية الحال الذي وصلت إليه الأمور في كلا المجموعتين: مجموعة الدول الحارسة بالأجرة، ومجموعة الدول الطاردة لسكانها، وإنما المسؤولية الأكبر تقع على عاتق تلك الأنظمة التي دمرت المجتمعات من خلال ليس فقط خنق أي نشاط سياسي فحسب، بل حتى النشاطات المدنية، وبالتالي مهدت بعد زوالها الطريق لكيانات ضعيفة تابعة، ولذلك من الضروري وعي هذه المفارقة القائمة على دعم الغرب للديمقراطية من جهة، ومصالحه القائمة على دعم الأنظمة المستبدة لتأمين الاستقرار، أو الاعتماد على كيانات وكيلة، وبالمحصلة خلق كيانات ضعيفة هشة قابلة للتحكم والاستئجار، وتلك من الكوارث التي يتوجب على الشعوب تحملها بعد زوال الأنظمة الشمولية.
إن مراقبة الحال في دول الحراسة تلك، وكيف تطفح بحركة الهاربين من ممالك الظلام على الضفة الأخرى تدفع المرء للتفكير جدياً في البحث عن آليات أخرى لتحصيل الحقوق، آليات لا تفرط بالبلدان وقواها البشرية من جهة، وتتمسك من جهة أخرى بحق الشعوب بحياة حرة وكريمة. لا شك أنها معادلة صعبة، ولكن واقع الحال المرعب وخاصة لنا نحن السوريين الموزعين على كل بقاع اليابسة نتجرع مرارة الموت كل يوم وندفع ثمن الصفقات خلف الأبواب المعلقة، يدفعنا للتفكير عن بديل.