أبرق رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الأسبوع الماضي إلى رئيس النظام بشار الأسد مهنئاً بفوزه بالانتخابات الرئاسية ومشيداً بما وصفها بالخطوة المعبّرة عن إعادة الاستقرار والأمن والسلام إلى ربوع سوريا، بينما بدا المشهد سوريالياً وحتى انفصامياً بامتياز، إذ إن عباس الهارب من إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في فسطين قام بتهنئة بشار الأسد وهو يعي تماماً أن الانتخابات مزوّرة وأجريت على أشلاء ودماء السوريين وأنقاض البلد الذي دمّره الأسد.
منهجياً؛ وكما كتبنا هنا مراراً تعبّر التهنئة بحد ذاتها عن فهم السلطة الفلسطينية لنفسها كعضو مركزي في منظومة الفساد والاستبداد العربية التي أسقطتها الثورات الأصيلة، كما نظرتها إلى نظام بشار الأسد كمن ينتمي إلى المنظومة نفسها، بل يخوض في الصفوف الأمامية معركتها الدموية اليائسة والخاسرة لهزيمة الثورات الأصيلة وصبغها بالدم، وإثبات انتصار الثورات المضادة في مواجهتها.
تسعى السلطة الفلسطينية أيضاً بنفاق وانتهازية لتقديم نفسها لأنظمة الثورات المضادة العربية الرسمية كجزء أصيل منها بل ومعبّر رسمي عنها
من هذه الزاوية تفهم السلطة كذلك مغزى انتخابات بشار الأسد باعتبارها جزءا من المعركة ضد الثورات الأصيلة، كما لتكريس سطوة وهيمنة أنظمة الفلول والثورات العربية المضادة كأمر واقع مع غطاء ديموقراطي مزيّف ووهمي، وهو الهدف الذي أراد سعي عباس نفسه لإنجازه عبر المرسوم الرئاسي لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في فلسطين قبل أن يتراجع ويهرب خشية الخسارة.
في السياق نفسه تسعى السلطة الفلسطينية أيضاً بنفاق وانتهازية لتقديم نفسها لأنظمة الثورات المضادة العربية الرسمية كجزء أصيل منها بل ومعبّر رسمي عنها بعدما عجزت تلك الأنظمة ولأسباب مختلفة عن تهنئة بشار علناً بفوزه المزور رغم علاقاتها السرية والمعلنة أيضاً معه، بينما تكفّلت السلطة بالمهمة إلى جانب سلطنة عمان مع تجاهل عواصم الدول العربية المحتلة من قبل إمبرارطورية الدم والوهم الفارسية، وللمفارقة فإن رام الله وعلى علاّتها وسوءاتها تبدو أكثر استقلالية من بيروت وبغداد وصنعاء، وبالتأكيد أكثر من دمشق نفسها.
محمود عباس يعي طبعاً أن بشار لا يملك الشرعية لإجراء الانتخابات أو حتى التنافس فيها، وهو يفهم جيداً أنها تجري دون إرادة الشعب السوري وفي ظل عدم مشاركة نصف السوريين المهجّرين واللاجئين والنازحين، وهي أيضاً ضد الشرعية الدولية التي يطالب عباس بتطبيقها في فلسطين وقبل ذلك وبعده فهي تجري على أشلاء السوريين الذين قتلهم بشار وعلى أنقاض البلد التي دمّرها بترسانته التقليدية وغير التقليدية بما فيها الكيميائي.
في قصة السلاح الكيميائي تزامنت تهنئة عباس مع إعلان رسمي للأمم المتحدة عن استخدام بشار الأسد لهذا السلاح (17) مرة ضد السوريين، ولكن هذا لا يغيّر شيئاً بالنسبة لأبي مازن المستبد والمغتصب للسلطة أيضاً، والذي صوّت ضد معاقبة بشار ونظامه في الهيئة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية.
تزامنت التهنئة السلطوية لبشار أيضاً مع دلائل ملموسة وإحصائية موثقة بالأرقام أكدت حدوث تزوير واسع ومنهجي وفظّ للانتخابات من خلال دراسة لجمعية القانونين السوريين أثبتت كذب كل الأرقام الرسمية المعلنة ووفق إحصائيات وأرقام سابقة كانت قد صدرت عن الهيئات التابعة للنظام نفسه. وببساطة وعملياً يملك حق التصويت في مناطق النظام قرابة 6 ملايين مواطن قال النظام أن 78 بالمئة منهم صوّتوا فعلاً أي قرابة 5 مليون، وحتى على فرض ذلك فإنهم يمثلون فعلاً ربع السوريين الذين يملكون حق التصويت، بينما أعلن النظام عن مشاركة 14 مليون صوت منهم 13 ونصف تقريباً لصالح بشار ما يمثل كذبا مفضوحا ووقاحة غير غريبة عن النظام وأفعاله.
أرسل عباس تهنئته أيضاً بالتزامن مع خطاب لبشار الأسد بعد إسدال الستار على المسرحية الانتخابية المزوّرة
في قصة الانتخابات والجانب السياسي تزامنت تهنئة عباس كذلك مع إعلان وزارة الخارجية الروسية عن إمكانية إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في سوريا بحال نجاح العملية السياسية في التوافق على دستور جديد، إعلان فضح كلياً مسرحية بشار الانتخابية ورفع الغطاء عن شرعيتها، كما عن شرعية النظام نفسه كونه فاقدا للسيادة وأسير الاحتلال صاحب القرار الفعلي في مناطق سيطرته. وهنا نعود إلى رئيس السلطة الذي طلب موافقة الاحتلال الإسرائيلي على انتخاباته بينما واضح أن بشار ما كان ليجري الانتخابات دون موافقة الاحتلال الروسي أيضاً.
أرسل عباس تهنئته أيضاً بالتزامن مع خطاب لبشار الأسد بعد إسدال الستار على المسرحية الانتخابية المزوّرة ظهر فيه متشنجاً ومتوتراً حيث وجه، الشتائم المبتذلة للسوريين، واتهم الشرفاء وكل الأطراف والجهات المحلية والإقليمية والدولية بالمسؤولية عن تدمير البلد، إلا هو شخصياً، وعموماً جاء الخطاب منفصماً تماماً كخطابه الأول إثر اندلاع الثورة في آذار/ مارس 2011 ببساطة هو لم ينسَ شيئاً ولم يتعلم شيئاً ولم يفهم شيئاً، وجاء خطابه مفعماً بالهزيمة واليأس ومثّل تأكيد إضافي على هزيمة نظامه، وأن لا مكان له في مستقبل سوريا التاريخية العظمى.
في الأخير وباختصار تمثلت قمة التناقض والانفصام في تهنئة محمود عباس لبشار الأسد على انتخابات هرب شخصياً منها بعدما تراجع عن المرسوم الرئاسي لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية بحجة عدم موافقة إسرائيل على إجرائها في القدس، وهذا عذر أقبح من ذنب كونه يعطي إسرائيل الفيتو على المصالح والقرارات الفلسطينية الكبرى، إضافة إلى تعبيره عن انفصام القيادة الفلسطينية وعجزها عن رؤية ما فعله المقدسيون طوال الأسابيع والأشهر الماضية عبر تصويت يومي وصاخب متعدد الوسائل - عمد بالدم - على هوية المدينة وتاريخها وثقافتها، ورافض الخضوع لمشيئة أو إرادة الاحتلال، وهو ما عجز أو لا يريد أصلاً الرئيس الهرم المستبد والفاسد رؤيته أو فهمه.
ببساطة رفض محمود عباس إجراء الانتخابات في فلسطين بعدما أصدر فعلاً المرسوم الرئاسي الخاص بها، ولو كان يضمن فوزه بها على طريقة بشار الأسد لما هرب منها، ولو كان هذا الأخير يخشى فعلاً من احتمال الخسارة في الانتخابات لما أجراها، ولهرب منها تماماً كحليفه المستجد محمود عباس.