استفاق النظام السوري من حلم الانتصار على وقع كابوسين سيشكلان لأول مرة تهديداً عميقاً وحقيقياً لنشوته التي لم تطل كثيراً بعد إعادة عضويته في الجامعة العربية وحضور رئيسه قمة جدة..
يتمثل الكابوس الأول في الدعوى التي تقدمت بها كل من كندا وهولندا لمحكمة العدل الدولية، والمتضمنة ضرورة محاسبته على الجرائم المرتكبة منذ العام ٢٠١١ بحق السوريين، وهو تحرك اعتقد النظام أن الزمن قد تجاوزه، وأنه لن يكون مضطراً لمواجهة ذلك الاستحقاق بعد إعادة تدويره من قبل معظم الدول العربية، وأن جرائمه ماتت بالتقادم، أو أنه استطاع طمس الأدلة وإقناع العالم بروايته وبراءته ولا سيما بعد أن خفت الصوت الغربي المضاد لروايته لسنوات طويلة..
لم يكن الأسد مخطئاً تماماً حينما شعر أنه بدأ يتخلص من الضغط الأوروبي، فقد اعتقدت أوروبا أن بديل الديكتاتور سيكون الإرهاب المتمثل بداعش، وبالفعل، بدأت الدول الأوروبية في السنوات السابقة تخفف من حدة خطابها تجاه الأسد بل وراحت تبدي مرونة في مسألة إعادة تدويره من منطلق ميزته الوحيدة بالنسبة لها والمتجسدة في أنه أفضل من البديل الداعشي كما اعتقدت، غير أن حرب روسيا على أوكرانيا غيرت الموقف الأوروبي بشكل كامل وأعادته إلى منشئه الأول، حيث أدركت أوروبا أن خطر الإرهاب الداعشي هو امتداد لخطر إرهاب الدولة المتمثل في روسيا ورئيسها بوتين والرؤساء المتحالفين معه وعلى رأسهم لوكاشينكو رئيس بيلاروسيا غرباً، ورأس النظام السوري شرقاً.
مهاجمته للغرب كانت الجزء الأكثر كاريكاتورية، وكان من الواضح تماماً أنه استغل منبر الجامعة العربية لتأكيد عهد الولاء والوفاء للرئيس الروسي، والحصول على رضاه من خلال مهاجمة الغرب
ولربما كان حضور الأسد للقمة العربية الأخيرة في جدة وخطابه المستفز القشة التي قصمت ظهر ذلك الحلم، ولا سيما حينما استثمر الوقت المخصص لخطابه في القمة العربية للنيل من أوروبا، وتحديداً ما يتعلق بالجانب الأخلاقي والقيم حينما اتهم الغرب بأنه بلا أخلاق، ورغم كل الابتذال والرخص الذي تضمنته الكلمة بمجملها، إلا أن مهاجمته للغرب كانت الجزء الأكثر كاريكاتورية، وكان من الواضح تماماً أنه استغل منبر الجامعة العربية لتأكيد عهد الولاء والوفاء للرئيس الروسي، والحصول على رضاه من خلال مهاجمة الغرب، الأمر الذي أكد لأوروبا أن حالة التساهل مع الأسد كانت خطأً لا بد من إصلاحه..
انقلبت لغة الغرب تجاه الأسد رأساً على عقب، فبعد أن اعتمد خطاب الإعلام الأوروبي -على مدار سنوات ما قبل الحرب الروسية على أوكرانيا- لغة أقرب للحياد في توصيفه للنظام، من خلال وصف الأسد بالرئيس، واستخدام مسمى "الحكومة السورية"، بدلاً من "النظام"، عاد دفعة واحدة لاعتماد اللغة التي خاطبه بها في بدايات الثورة، حيث كان يتحدث عن جرائم الأسد ويصفه بالديكتاتور ومجرم الحرب، ولكن ذلك كله تراجع بعد ظهور داعش إلى أن أعادت الحرب الروسية على أوكرانيا اللغة القديمة فيما يتعلق بتوصيف الأسد ونظامه..
على مستوى الإعلام الهولندي، فقد رصدت القنوات التلفزيونية والكثير من الصحف خبر إعادة الأسد للجامعة العربية وتناولته بانتقاد لاذع مستعيدة السيرة الأولى للغة القديمة، كما انتقدت الجامعة العربية بشكل صريح في قرارها إعادة من سمته صراحة "الديكتاتور ومجرم الحرب"، وأعاد الإعلام الهولندي في هذا السياق سرد الحكاية السورية وسرد جرائم الأسد كما كان يفعل في بدايات الثورة، ومن يتابع ذلك الإعلام سيعرف أن سياسة هولندا تجاه الأسد -وهي جزء لا يتجزأ من سياسة أوروبا بالكامل- عادت للتعامل مع الأسد بصفته الحقيقية كمجرم حرب ومرتكب لا بد من جرّه إلى محكمة العدل الدولية.
وباشتراك كندا مع هولندا في الدعوى المقدمة لمحكمة العدل الدولية ضد النظام، نصبح أمام التزام يقطع الطريق على أي فرصة لإعادة الاعتراف بالأسد من قبل الغرب، ويشكل تهديداً وكابوساً حقيقياً يحول دون حلم الأسد الذي كاد أن يتحقق، أو هكذا ظن الأسد على الأقل، فضلاً عن كابوس المتابعة القضائية التي لم ينج منها أحد من مجرمي الحرب حول العالم ولا سيما حينما تتخذ المبادرة من دول ذات ثقل نوعي..
الكابوس الثاني والأخطر الذي يقض مضاجع الأسد، هو التحرك الجديد باتجاه مجلس عسكري يتولى الإشراف على الفترة الانتقالية في حال قرر المجتمع الدولي دعم ذلك المشروع، صحيح أن طبيعة التحالفات الحالية لا توحي بسهولة تحقيق ذلك، ولكن الحالة المزرية التي وصلت إليها سوريا، والمخاطر التي تترتب على دول الجوار والعالم أيضاً، قد تفرض على المجتمع الدولي التعاون في ذلك المشروع، إن لم يكن من أجل السوريين، ولا من أجل العدالة، فعلى الأقل من أجل ضرب حليف بوتين، والتخفيف من مخاطر إرهاب المخدرات العابر للحدود والقادم من سوريا الأسد.
ما يخيف الأسد في هذا السياق أيضاً هو اسم مناف طلاس، فبصرف النظر عن مواقفنا المتضاربة كسوريين من الرجل، إلا أن مكمن الخطر بالنسبة للأسد هو أنه لا يستطيع اتهام طلاس بالإرهاب، ولا بالأسلمة ولا بالطائفية، ورغم كل الاغتيالات التي قام بها النظام لقتل البدائل المحتملة، إلا أن مناف طلاس استطاع الخروج من سوريا وإعلان انشقاقه، غير أن انشغال العالم بلعبة محاربة داعش أخرج طلاس من دائرة الحدث لسنوات طويلة وها هو اليوم يعود إلى الواجهة محملاً بأوراق ضغط ثقيلة اعتقد الأسد أنه تجاوزها تماماً كاعتقاده بتجاوز كل الجرائم ودفنها مع جثث ضحايا الكيماوي والبراميل وضحايا التعذيب في المعتقلات.
ومهما كانت فكرة المجلس العسكري غير واقعية في ظل الواقع الحالي، وفي ظل التوازنات المعقدة في الداخل السوري، إلا أن مجرد وجود بديل محتمل ومقنع هو أمر مقلق وموجع للنظام، ولا سيما بعد أن طوى الزمن فكرة البديل كما طوى فكرة الرحيل أو السقوط، كما يعتقد الأسد.
وبإعادة كشف النقاب عن جرائمه من قبل الغرب، واحتمالية قبول المجتمع الدولي ببديل للأسد، فإن قلق الأسد سيعود إلى نقطة البداية، معززاً بواقع اقتصادي لا قبَلَ للنظام به، ولا قدرة له على معالجته حتى لو أراد، وبواقع اجتماعي مفتت، وواقع سياسي لا يضمن استمراره إلا القوة، وواقع عسكري يمكن أن يعود للانفجار في أية لحظة في ظل فوضى انتشار السلاح والميليشيات والفصائل والجيوش المتعددة المتناحرة على الأرض السورية، والأهم في ظل علاقة ميئوس من إصلاحها بين النظام والشعب، وفي ظل استهتار وسخرية النظام المستمرة من المواطن الذي يقبع تحت سيطرته على الأقل من خلال حديثه عن السيادة في واقع متناقض تماماً مع الحدود الدنيا للسيادة.
لقد توهم النظام أنه تجاوز أزماته، وراح يكثف الحديث عن إعادة الإعمار وإعادة بناء الدولة، بل وراح يخطط من جديد للأبدية والتوريث معتقداً أنه استطاع تصفية كل الأشخاص وكل الأفكار التي قد تعرقل مشروعه في البقاء، ولكن المتغيرات العميقة في الجغرافيا السياسية التي أدت إلى بقاء الأسد خلال اثني عشر عاماً تشهد اليوم تصدعات جديدة، وثمة إعادة بناء لخريطة العلاقات في ضوء المتغيرات المتسارعة في السياسة الدولية، وقد تكون تقاطعاتها الجديدة لصالح السوريين وقضيتهم.
الصورة السطحية للمشهد الدولي وتوازناته توحي بأن الواقع السوري مستمر في الغموض، وأن النفق لا يزال طويلاً دون أن تلوح له نهاية، ولكن الواقع العميق يشي بانفجارات قد تقلب الطاولة على حسابات الأسد
ربما كنا أمام آخر اختبار للمجتمع الدولي وللعدالة الدولية التي تشوهت صورتها بشكل عميق من جراء سكوتها وتواطئها أحياناً مع الأسد وجرائمه لدرجة أوصلت السوريين إلى حالة يأس كاملة من تلك العدالة وإمكانيات تحقيقها، غير أن التحولات السياسية كثيراً ما تكون مفاجئة وحادة، فهل ستكون التحولات القادمة لصالح السوريين؟ هل سيضطر المجتمع الدولي لتحقيق العدالة ليس من أجل العدالة بحد ذاتها كما حدث في حالات كثيرة بل لأنها تتقاطع مع مصالحه؟
الصورة السطحية للمشهد الدولي وتوازناته توحي بأن الواقع السوري مستمر في الغموض، وأن النفق لا يزال طويلاً دون أن تلوح له نهاية، ولكن الواقع العميق يشي بانفجارات قد تقلب الطاولة على حسابات الأسد، ولا سيما بعد التورط الروسي في المستنقع الأوكراني وملامح عرقلة مشروع المصالحة التركية مع الأسد، وفتور الحماس للأسد من قبل الدول العربية التي دعت إلى التطبيع معه..
هل ستشكل المرحلة المقبلة الحبلى بالمفاجآت منعطفاً حاداً يعيد وضع حبل المشنقة فوق كرسي الرئاسة؟ أم سيسهل على النظام الإفلات مرة أخرى من المصير الذي ينتظره ملايين السوريين؟ سؤال قد تجيب عنه الأيام القادمة، وقد يبقى مفتوحاً لفترة طويلة ويعيد معه فتح الجرح السوري المستمر في النزيف.