منذ يوليو/ تموز 2019، تبنّت تركيا سياسة نقدية تقوم على خفض أسعار الفائدة بتوجيهات من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث كان يرى أنه يجب أن تظل أسعار الفائدة في خانة الآحاد، مستشهدًا بتجارب دول أخرى حول العالم.
ومع ذلك، بعد الانتخابات الرئاسية في مايو/ أيار 2023، تم تعيين حفيظة أركان كمحافظة للبنك المركزي (تقدمت باستقالتها فيما بعد)، التي اتبعت نهجًا مختلفًا تمامًا عن سياسة أردوغان السابقة. في إطار سياستها النقدية التشددية، بدأت برفع أسعار الفائدة تدريجيًا، لتصل إلى 45% بحلول يناير 2024. هذا التحول يعكس تغييرًا جذريًا في السياسة النقدية التركية بعد سنوات من الخفض المستمر للفائدة، بهدف مكافحة التضخم، الذي لا يزال أحد أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد التركي.
الفائدة كأداة نقدية
يُعتبر سعر الفائدة من أهم أدوات السياسة النقدية. تحدد البنوك المركزية أسعار الفائدة الأساسية، المعروفة بسعر الخصم، وهو السعر الذي تقرض به البنوك التجارية. تُعد أسعار الفائدة في البنوك المركزية مؤشرًا رئيسيًا لمعدلات الفائدة على القروض والإيداعات.
يقوم البنك المركزي برفع أو خفض أسعار الفائدة لتحقيق التوازن الاقتصادي. فعندما يرتفع معدل التضخم أو يشهد الاقتصاد حالة من النمو المفرط، يُرفع سعر الفائدة لتقليل كمية النقود المتداولة وتحفيز الأفراد والشركات على الادخار بدلاً من الإنفاق. وفقًا للنظرية الكينزية، يتحدد سعر الفائدة بناءً على تفاعل العرض والطلب على النقود.
هل يوجد إيجابيات من رفع أسعار الفائدة؟
- كبح التضخم: رفع الفائدة يقلل من كمية النقود المتداولة، مما يؤدي إلى انخفاض معدلات التضخم ويمنع الارتفاع السريع في الأسعار.
- تشجيع الادخار: رفع الفائدة يحفز الأفراد والشركات على الادخار بدلاً من الإنفاق، حيث تصبح الفوائد على الإيداعات أكثر جاذبية.
- تهدئة الاقتصاد: في حال شهد الاقتصاد نموًا مفرطًا، يساهم رفع الفائدة في تخفيف الضغط على الموارد الاقتصادية وتقليل المخاطر المرتبطة بالنمو السريع، مع استقرار الأسعار ومنع التقلبات الحادة في الأسواق.
ما هي سلبيات رفع أسعار الفائدة؟
زيادة تكلفة الاقتراض، فرفع الفائدة يجعل الاقتراض مكلفًا، مما يؤثر على شراء العقارات والسيارات والقروض الشخصية وحتى القروض الاستثمارية.
يقلل هذا من الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، مما قد يؤدي إلى انخفاض الطلب في الأسواق. هذا التراجع يؤدي إلى انخفاض في النشاط الاقتصادي بشكل عام، وقد يؤدي إلى ركود اقتصادي، حيث تتباطأ عجلة الإنتاج، وتقل فرص العمل، وترتفع معدلات البطالة.
التضخم المرتفع في تركيا
شهد الاقتصاد التركي مستويات مرتفعة للغاية من التضخم خلال السنوات الماضية، متمثلة في الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار. ففي مايو 2024، وصل معدل التضخم السنوي إلى 75.45%. كانت الأزمة قد بلغت ذروتها في عام 2022، حيث تجاوزت معدلات التضخم السنوية 80% في النصف الثاني من العام.
ومع بداية يونيو 2024، بدأت معدلات التضخم في الانخفاض التدريجي، بما يتماشى مع الخطة الاقتصادية التي وضعها وزير المالية محمد شيمشك، والذي وعد بأن تظهر نتائج السياسة النقدية التشددية في النصف الثاني من العام، وهو ما بدأ يتحقق.
العلاقة بين الفائدة والتضخم
العلاقة بين أسعار الفائدة والتضخم هي علاقة عكسية. عندما تُرفع أسعار الفائدة، ينخفض التضخم، حيث يزيد ذلك من تكلفة الاقتراض ويجعل الادخار أكثر جاذبية، مما يؤدي إلى تقليل الطلب على الاستهلاك والإقراض، وبالتالي تقليل السيولة في السوق وتخفيف الضغط على الأسعار.
في يونيو / حزيران 2023، بدأت أركان، بعد توليها منصب محافظة البنك المركزي، في رفع أسعار الفائدة تدريجيًا. بعد أن كانت ثابتة عند 8.5% من فبراير حتى مايو 2023، ارتفعت إلى 50% في مارس 2024. على الرغم من استقالتها، استمر تثبيت أسعار الفائدة عند 50% حتى اليوم. كان الهدف من هذا الرفع الكبير في أسعار الفائدة هو كبح التضخم المرتفع، وبالفعل بدأت معدلات التضخم في الانخفاض منذ يونيو 2024، حيث وصلت إلى 51.97% في أغسطس 2024.
ماهي الآفاق المستقبلية؟
الوضع الصحي والمستدام لأي اقتصاد يتطلب أن تكون معدلات الفائدة أعلى من معدلات التضخم. معدلات الفائدة المثالية تتكون من سعر الفائدة الحقيقي مضافًا إليه معدلات التضخم، لحماية المدخرات وضمان الاستقرار الاقتصادي.
مع تراجع سعر صرف الليرة التركية وتجاوزه 34 ليرة للدولار الواحد، لم يتحقق هذا التوازن بعد، على الرغم من تقارب معدل الفائدة (50%) مع معدل التضخم (51.97%).
من الضروري أن يكون هناك فجوة أكبر بين معدلات الفائدة والتضخم قبل أن يبدأ البنك المركزي في خفض أسعار الفائدة. إذا انخفض التضخم إلى ما دون 43%، حينها يمكن أن نكون أمام فرصة لخفض أسعار الفائدة بشكل ملموس. السيناريو المتشائم يتوقع أن يبدأ خفض الفائدة في شهري أكتوبر أو نوفمبر 2024، بينما السيناريو المتفائل يتوقع أن يحدث ذلك في يناير أو فبراير 2025.
ورغم أنني لست من أنصار الفائدة فكريًا أو عمليًا، إلا أن الواقع أثبت أهميتها في كبح التضخم من خلال رفع أسعارها. ومع ذلك، هناك حاجة لإيجاد أدوات بديلة للفائدة، تتناسب مع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى الأدوات الحالية. تعد الفائدة نتيجة لعمليات خلق الائتمان، وتساهم في تحسين الاقتصاد التركي الذي يسير الآن في مسار تصحيحي. ومع التأكد من تعافي الاقتصاد من التضخم المرتفع، يمكن الانتقال إلى سياسات نقدية أكثر مرونة لتحقيق النمو الاقتصادي والاستقرار المستدام.