مأزق الشرعية في عالمنا العربي وعلاقة المثقف بالسلطة

2023.03.07 | 07:24 دمشق

بشار الأسد في عمان
+A
حجم الخط
-A

ما إن أصدر الرئيس الأميركي بايدن قراراً عطل بموجبه قوانين قيصر وسمح بالتعامل المباشر مع بشار الأسد وزمرته وحاشيته لمدة ستة أشهر كاملة حتى سارعت إحدى دول الخليج "سلطنة عمان" لفرش السجاد الأحمر لسفاح الشام للحضور إلى أراضيها.

وما إن عاد إلى دمشق حتى تقاطر قطيع البرلمانيين العرب إلى دمشق وشكلّ مع نظيره فيها مشهداً سريالياً مخزياً يوحي بأننا في عالمنا العربي بحاجة لثورات وثورات لإزالة كل هذا العفن السياسي عن صدر الشعوب العربية المقهورة.

 تلك التراجيديا السوداء وما رافقها من برامج حوارية على شاشات التلفزة استضافت فيها محللين سياسيين أو مستشارين أو مفكرين تابعين للدول التي اقترفت جرم التطبيع مع طاغية الشام سراً أو علانية أو تلك الدول التي تتحضر وهي في طريقها للتطبيع معه.

المشهدان " البرلمانيان والمثقفان " أوحيا لي بطرح سؤالين

الأول: منهما يتعلق بمدى شرعية البرلمانات العربية

والثاني: يتعلق بما هية علاقة المثقف بالسلطة في عالمنا العربي

ويبقى السؤالان مفتوحين للزمن، وتبقى الإجابة عليهما رهناً برأي القارئ الكريم.

السؤال الأول: هل البرلمانيون العرب يمثلون فعلاً شعوبهم وإلى أي مدى وهل هم سلطة فعلاً، وما مدى شرعية المواقف والقوانين والتشريعات التي تصدر عنهم؟

للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعترف بأن السمة العامة والرئيسية لأنظمة الحكم في المنطقة العربية هي عدم شرعيتها كونها  أنظمة وراثية قائمة على الاستئثار بالسلطة والثروة والقوة والإعلام أو الحقيقة  وإن بدرجات متفاوتة.

فهل يمكن لتلك الأنظمة البدائية "كنظم سياسية" أن تنتج مؤسسات شرعية "برلمانات" في أي من المنظومات التي تسيطر فيها على السلطة بالحديد و النار؟

برلمانات بمعنى سلطة تشريعية منتخبة تصدر قوانين وتشريعات، ومن المفترض بهذه السلطة التشريعية  أن تسعى  لتحقيق مصالح الناس وليس مصالح الفئة الحاكمة أو المستفيدة.

لا يخفى على أحد الفرق الكبير بين الحالتين:

فالقوانين التي تسعى لتحقيق مصالح الناس أو الأعم الأغلب منهم عادة ما تنبع من ينابيعها الطبيعية الماثلة في الوجدان والعقل العام الجمعي لمعظم أبناء الوطن وهنا يمكن الحديث عن مزاج عام يحمل معظم الناس على الإذعان العام الطوعي الاختياري للقانون وهو عنصر التفريق ما بين سلوك المواطن بالغرب وسلوك المواطن في عالمنا العربي.

فالمواطن الغربي يشعر أن القانون يمثله ويحقق مصلحته ويشعر أنه أسهم من خلال مرشحه في صناعته وأن بإمكانه معارضته في أي وقت وبجميع الطرق السلمية والمطالبة بإسقاطه وتغييره بالطريقة ذاتها التي صدر بها.

في حين أن المواطن العربي يشعر في قرارة نفسه أن القوانين في بلاده تصدر لمصلحة السلطة الحاكمة المؤبدة المفروضة عليه كالحجر والشجر، وبالتالي لا يملك الحق بالمطالبة بتغيير القوانين التي تصدرها لأنها صدرت لمصلحتها هي وليست لمصلحتة هو، لذلك بدلاً من أن تتشكل لديه غريزة الانصياع الطوعي للقانون تتشكل لديه غريزة الالتفاف على القانون أو الاحتيال عليه.

وبالتالي: طالما هناك أنظمة حكم شرعية منتخبة، فهي تنتج بالضرورة مؤسسـات تمثل مصالح الناس "برلمانات" وتتخذ مواقف تعبر عن المزاج العام للأعم الأغلب من المواطنين وهي بالتالي تصدر قوانين وتشريعات شرعية مما يسبل حالة من الاستقرار العام الناجم عن الانصياع الطوعي المجتمعي العام للقانون.

بالمقابل أنظمة حكم بالحديد والنار، تنتج مجالس أو برلمانات مرتبطة بشخص الحاكم الفرد ولا تهدف إلا للتقرب منه وكسب رضاه، وهي بالضرورة تتخذ مواقف أو تصدر قوانين وتشريعات لا تنبع من ينابيعها الطبيعية في العقل العام أو المزاج المجتمعي العام وبالتالي تصدر قوانين لا شرعية لها لأنها تمثل إرادة أو مصالح الفئة الحاكمة أو المستفيدة وهو ما يسبل بظلاله القاتمة على مختلف مناحي الحياة العامة لأنها تفرض بالجبر والشدة والإرهاب المادي والمعنوي، مما  يخلق لدى الناس غريزة أو ثقافة  الالتفاف والتحايل على القانون ومحاولة مخالفته وتجاوزه بأي وسيلة بدلا من الانصياع الطوعي له.

ذات الشيء الذي ينطبق على القوانين والتشريعات اللاشرعية التي تصدرها البرلمانات العربية  ينطبق أيضاً على المواقف التي تتخذها ومنها الموقف من طاغية الشام بشار الأسد.

السؤال الثاني: وقد استلهمته من متابعة مواقف عدد من الضيوف العرب الذين طبّعت حكوماتهم أو في طريقها للتطبيع مع نظام الحكم في سوريا في البرامج الحوارية المتعلقة بهذا الموضوع.

فالموقف التبريري كان عاملاً مشتركاً عند جميع الضيوف العرب الذين لحكوماتهم مواقف لا أخلاقية مع الشعب السوري في مواجهة النظام المجرم بدمشق حتى أصبحنا أمام ظاهرة لافتة للنظر.

وهو ما يطرح سؤالاً عريضاً عن طبيعة علاقة المثقف سواء أكان محللاً سياسياً أم مستشاراً وزارياً أم باحثاً أو حتى صحفياً أو أياً من الصفات التي يظهرون بها في البرامج الحوارية" مع أنظمة الحكم في بلدانهم.

بمعنى أين يقف المثقف في عالمنا العربي من هيكلية السلطة الحاكمة في بلده.. ما موقعه من السلطة الحاكمة.. أين جغرافيته ضمن خريطة الهيكلية السياسية للسلطة.. بمعنى هل يقف المثقف العربي بالقرب من رأس السلطة فيقرع الحجة بالحجة ويجادل الأفكار ويحاور الطروحات ويناقش المسارات أم أن مكانه  الطبيعي عند المؤخرة وهو مضطر أن يجتر كل ما يصدر عنها من مواقف " قد تكون لا أخلاقية" فيجترها ويدورها ويبررها ويجد لها الذرائع والأسباب أملاً بالخلاص حيناً أو طمعاً بالقرب حيناً آخر.

هذه المسألة تأخذنا للبحث في أحد أهم الحقوق الأساسية الملازمة للشخصية ألا وهو حرية الرأي والتعبير في عالمنا العربي وأنا لا أريد الاستفاضة بالحديث عن هذا الموضوع فتكفي نظرة سريعة على قوائم معتقلي الرأي والضمير في عالمنا العربي لنعرف عمق المصيبة التي أتحدث عنها.

ما أريد قوله باختصار: 

الرسول الكريم قال: "فليقل خيراً أو ليصمت".

الجميع يعلم مأساة المثقف في عالمنا العربي والهامش الضيق المتروك له، فمن غير الضروري في ظل هذا الواقع أن يلعب المثقف العربي دور المرآة المقعرة للحاكم العربي التي تعطي صورة وهمية معملقة أو مضخمة له.

إن لم يكن بإمكانك أن تنحاز إلى الطرف الضعيف في المعادلة وتأخذ جانب "الشعوب" سنداً لما تفرضه عليك القيم الأخلاقية والسلوكية والدينية والإنسانية، فعلى أقل تقدير لا نريد للنظام الحاكم أن يحتذيك أيها المثقف العربي، لا نريد لك أن تكون بوقاً يبرر ويطبل بذريعة الواقعية السياسية حيناً أو بذريعة الحد من الخطر الإيراني حيناً آخر أو بغيرها من الذرائع.

أخيراً أقول لمثقفي السلطة في عالمنا العربي ومن خلفهم وفد البرلمانيين العرب الذين تم استعمالهم مع الأسف كمناديل لمسح أكبر قدر ممكن من القذارة عن جبين النظام الرسمي العربي الذي تلقى الأوامر فيما يبدو للتطبيع مع المجرم الدولي بشار الأسد.

نحن كسوريين مشكلتنا مع بشار الأسد ليست سياسية ولا هي خلاف أيديولوجي أو عقائدي حتى نتصالح ونتصافى ونتفق أو لا نتفق.

مشكلتنا معه أخلاقية لأن يديه ملوثتان بدماء مليوني سوري على أقل تقدير، هذا  عدا عما دمر وعما هجر وعما دس من دسائس بحق شعبه حتى استجلب عليه جميع أشرار الأرض الدوليين وهو ما تعلمه يقينا جميع الشعوب العربية فلا تتواروا خلف أصابعكم وتتحدثوا عن تغير في مزاجها العام تجاه النظام المجرم بدمشق لأننا كشعوب عربية ومسلمة تقاسمنا التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك أعلم الناس ببعضنا بعضاً.

ولعل الإذعان الأعمى لحكوماتكم المفروضة عليكم  للعم سام ومن يقف في ركاب العم سام هو ما أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم فلا تأتوا بعد كل هذه السنوات وتتذرعوا بخوفكم على سوريا التي تنزف وأنكم تريدون إنقاذها من براثن الإيرانيين.

إن حديثكم عن الواقعية السياسية قد يفضي بكم في نهاية المطاف لتسليم مفاتيح الكعبة لإيران وليس فقط دمشق التي فرط بها النظام الرسمي العربي على مدى عقد من الصراع والذي سيستمر إلى أن تتحرر من براثن الشر الأسدي ومن يقف وراءه.

كل ما هو مطلوب منكم اليوم أن تقولوا خيراً "إن استطعتم" أو أن تصمتوا… لكن إياكم أن تبرروا أو تلعبوا دور الواعظ الحكيم بالسياسة لأن التاريخ لن يرحمكم.