انتحر لاجئٌ في نهر الرون في مدينة ليون عام ٢٠٢٠ وكنت واصلاً حديثاً إلى فرنسا. أذكر أن الخبر أدهشني؛ فالناس يفعلون كل شيءٍ كي يصلوا إلى هذه البلاد، فما بال لاجئٍ وصل هنا وصار بأمانٍ يلقي بنفسه في لجّة النهر؟ وهكذا عزمت على التفتيش في خبايا الأمور، ومضيت أتفحّص أحوال اللاجئين بتمعّنٍ وحذر، غير مقتصرٍ على حُسن الظنّ، فقد شعرت أن وراء الأكمة ما وراءها.
ومع الوقت صارت أخبار انتحار اللاجئين في فرنسا لا تفاجئني، بل صرت أراها متوقعة في ضوء الإهمال والازدراء اللذين يلقاهما اللاجئون من المؤسسات المعنية في تسيير شؤونهم، وإعادة توطينهم على التراب الفرنسي.
وكما يحتاج اللاجئون فرنسا لأسبابٍ سياسية وأمنية، فإن فرنسا تحتاج اللاجئين أيضاً لأسبابٍ اقتصادية وديمغرافية. لكنّ طبيعة هذه العلاقة ذات النفعية المتبادلة تجعل عملية اللجوء تبدو من بعض جوانبها كنظام عبوديةٍ مُحدّث، وخصوصاً أن فرنسا تستغلّ اللاجئين لسدّ الفراغات الكبيرة في المهن الحقيرة التي يأنف الفرنسيون الاشتغال بها. وهكذا لا يمكن فهم مبررات تجهّم فرنسا في وجه اللاجئين، وقسوة المعاملة التي تعاملهم إياها، إلا باعتبارها عملية نزع للصفة الإنسانية عنهم من أجل تهيئتهم للدخول بسلاسة في العبودية التي تنتظرهم.
يجد اللاجئ إلى فرنسا نفسه عالقاً في ظروف استقبالٍ مزرية وغير إنسانية، ما يجعل الحكومة الفرنسية تبدو كما لو أنها ترتكب جناية القتل غير العمد كلما أقدم لاجئٌ على الانتحار
اللاجئ أساساً إنسان هشّ ومستضعَف. وهو يحمل بداخله عذابات دمار وطنه وصعوبات قطيعته مع حياته السابقة. ولعلّ أشهر لاجئ انتحر في التاريخ يقوم شاهداً على هذه الحقيقة. فالأديب النمساوي الكبير تسيفان سفايغ الذي غادر بلاده خلال الحرب العالمية الثانية ووصل بأمانٍ إلى البرازيل انتحر في نهاية المطاف برفقة زوجته حزناً وكمداً على دمار موطنه الروحي أوروبا، كما قال في رسالة الانتحار؛ مضيفاً أن "الإنسان يحتاج إلى طاقاتٍ غير عادية حتى يبدأ بدايةً جديدةً كلّ الجدّة،" مبرراً بذلك أسبابه النفسية للانتحار. أنا لا أتفق مع سفايغ على تبريراته لكني أتفق معه على صعوبة أن نبدأ "بدايةً جديدةً كل الجدة" وسوف يفهم كل لاجئ هذا جيداً.
يجد اللاجئ إلى فرنسا نفسه عالقاً في ظروف استقبالٍ مزرية وغير إنسانية، ما يجعل الحكومة الفرنسية تبدو كما لو أنها ترتكب جناية القتل غير العمد كلما أقدم لاجئٌ على الانتحار. ومناسبة الحديث هنا هي انتحار الشاب السوري محمد كنان المقداد (21 عاماً) الذي كان يعيش في المدينة التي أسكن فيها هنا في مقاطعة اللورين قبل أسبوعين. وهي ليست أول حالة انتحارٍ لسوريين في فرنسا وأخشى أنها لن تكون الأخيرة. هناك مثلاً عائلةٌ سورية برزت مؤشرات على أنها نفّذت انتحاراً جماعياً منذ فترة في مدينة ستراسبورغ قبل يومٍ واحد فقط من طرد العائلة من البيت الذي تقيم فيه بسبب مشكلات إدارية مع شركة السكن.
تستقبل فرنسا معظم السوريين عن طريق الأمم المتحدة أو عبر فيزا مباشرة من سفاراتها ثم تقذف بهم - وبغيرهم من اللاجئين - في كامبات وسخة ومهمَلة يسكنها العثّ والصراصير وتفتقد أدنى معايير السلامة الصحية. وحتى بعد أن يحصل اللاجئ على بيتٍ مستقلّ فإنه سيُفرَز على الأغلب إلى ضَواحي مخصصة للمسلمين من عرب وأتراك تُعتبر بمنزلة غيتوهات حقيقية معزولة عن المجتمع الفرنسي تكثر فيها مشكلات المافيا وتتراكم القمامة وتحضر الجريمة. ثم بعد ذلك يُترك اللاجئون شهوراً طويلة - بل وسنواتٍ أيضاً - بانتظار أوراق ثبوتية بسيطة بإمكان أصغر حكومة بالعالم إصدارها بلا أي عناء. صحيح أن الحكومة الفرنسية تعطي اللاجئين في الأثناء مساعدة مالية، لكنها مساعدةً بالكاد تكفي لشراء الطعام. وإلى ذلك فاللاجئون يبقون في وضعٍ لا يُسمح لهم بالعمل والحصول على حقوق المساواة في الفرص، وخصوصاً أن الحكومة لا تعترف بما يحملونه من شهاداتٍ وخبرات، ولا تحرص على تعليمهم اللغة الفرنسية، وتتركهم مجرد آلاتٍ عضلية سيأتي في النهاية من يستغلهم للعمل بلا رخصة بأجورٍ بخسة وبشروطٍ مجحفة، بينما سيقع الكثير من اللاجئين الشباب في حبائل مروّجي المخدرات، ويسقطون في شَرك إدمانها.
وأنا هنا لا أتحدث عن طالبي اللجوء، بل عن اللاجئين أنفسهم ممن حصلوا على الحق القانوني في اللجوء في فرنسا. فهم يبقون ثلاث سنوات أحياناً بانتظار بطاقة الإقامة وأطول من هذه المدة للحصول على جواز سفر. وكل ما يحصل عليه اللاجئ في الأثناء هو ورقة عادية قياس A5 عليها اسمه وصورته وتاريخ دخوله إلى فرنسا. هذه الورقة تنتهي صلاحيتها كل ثلاثة شهور؛ وهكذا يغدو من المستحيل فعلياً الحصول على عقد عمل لسنة أو حتى لستة شهور. ومع غياب جواز السفر لا يملك اللاجئ رفاهية السفر لألمانيا مثلاً أو أي بلد من بلدان أوروبا الكثيرة ليبتغي رزق ربه. فاللاجئ من هذا الباب يغدو سجيناً وما هو بمسجون، كما أنه يصبح فقيراً جائعاً بقوة القانون.
بين حبوب الطبيب، ومخدّرات الضواحي، وإهمال الحكومة، تتفاقم حالة بعضهم ويدخلون في حالاتٍ خطيرة من الفصام والهلوسة فيفقدون السيطرة على أنفسهم
وهكذا تحدث حالة مقاومةٍ ورفضٍ للواقع، لكن الرفض ذاته ينتهي إلى طريقٍ مسدود، فيجد بعض اللاجئين أنفسهم عاجزين وضائعين ما يدفعهم للنكوص والمشكلات النفسية، فإن حصل وقصدوا الطبيب النفسي، فإنهم على الأغلب لن يحصلوا إلّا على مسكّناتٍ عصبية تدفع للإدمان. وبين حبوب الطبيب، ومخدّرات الضواحي، وإهمال الحكومة، تتفاقم حالة بعضهم ويدخلون في حالاتٍ خطيرة من الفصام والهلوسة فيفقدون السيطرة على أنفسهم. ولا أدلّ على ما أقول من حالة الشاب المقداد الذي انتحر في مدينتي التي أسكن فيها وقال المقرّبون منه إنه كان يعاني من الخيبة والإحباط، وفقدان الشعور بالقيمة والدافع للحياة، مع أنه شاب صغير في مقتبل العمر، ويعيش في فرنسا التي تصدّر العطور والخمور، والأفكار والفنون، والفرح والمباهج إلى كل أنحاء الدنيا.