قبل عدة سنوات قرر بشار الأسد أن يلقي خطاب نصر ما على أسماعنا، وانتصارات سيادته كما تعلمون أكثر من الهم على القلب، في فترة خطابه كنا نعيش نوعا من الانكسار والإحساس بالهزيمة وخاصة بعد التقدّم الكبير الذي حققته قواته على الأرض مستفيداً من الدعم الهائل الذي قدمه حليفه بوتين. وأمام تغني سيادته بشعر ابنة خالته، لم أجد وسيلة للانتقام منه، وأنا المعلّق على صليب الهزيمة، إلا بالسخرية، فقهقهة واحدة في وجه جلادك كفيلة بإثارة جنونه.
لم أعبأ حينها بكلمته أو بشكله، انصرفت عن ذلك كلياً، ورحت أفتش في المشهد عن شيء آخر كفيل بالتغطية على سيادة المنتصر، وسرعان ما وجدت ضالتي في زجاجة وضعت خلفه كنوع من الزينة. حسناً، لنصنع لهذه الزجاجة حكاية، حكاية غير تقليدية، حكاية من بلد الصمود والتصدي، مسلّحة بكل هراء "القائد الخالد" ومعجم "الحزب القائد للدولة والمجتمع". وهكذا أصبحت الزجاجة العنصر الأهم في المشهد كله، بل تحوّلت إلى المحور الذي تدور من حوله عائلة سيادته. فالزجاجة كما تقول الحكاية، حكايتي، مصنوعة من تراب بحيرة طبريا والسائل الذي فيها هو ماء البحيرة، وقد أورثها الخالد الذي مات للرئيس الشاب طالباً منه أن يُحقق عهد العائلة بإعادة الجزء إلى الكل، ومعلومكم فإن تحقيق عهد كهذا يعني تحرير الجولان، خبط لزق!
انفجرت حكاية الزجاجة على مئات الحسابات والصفحات المؤيدة لنظام الأسد، ونالت ربما آلاف التعليقات المتغنية بحكمة القائد الراحل وبر القائد الجديد
نشرتُ الحكاية على "فيس بوك" مُضمّنة بعدد من العبارات التي لا يمكن لمن يصادفها إلا أن يضحك من تناقضاتها وسذاجتها، وهدف السخرية الواضح "جداً" منها، أو هذا ما اعتقدته!
ما حدث بعد أسابيع كان أمراً لا يصدّق، انفجرت حكاية الزجاجة على مئات الحسابات والصفحات المؤيدة لنظام الأسد، ونالت ربما آلاف التعليقات المتغنية بحكمة القائد الراحل وبر القائد الجديد، في حين لهجت مئات التعليقات بالدعاء بالتوفيق والسداد لسيادته. كنت مذهولاً تماماً، ولكن الأمر لم ينته هنا، الحكاية انتقلت إلى وسائل الإعلام "المقاومة"، ثم واصلت طريقها إلى وكالات أنباء نستقي منها الأخبار في روسيا وإيران. في حين انشغلت مواقع فحص وتوثيق الأخبار في نشر الأدلة والتحليلات التي تثبت "زيف" الحكاية، في مشهد عبثي يدعو للحزن.
وأمام طوفان الجنون حاولت "رئاسة الجمهورية" بكامل هيبتها التصدي للحكاية والانتصار عليها، ونشرت توضيحاً يائساً يؤكد أن كل المضامين والرسائل هي في حديث سيادته لا في قطع الزينة التي خلفه والتي لا تحمل أي دلالات. هذه المرة فشل سيادته في الانتصار، وانتصرت السخرية، ربما لأن أحداً لم يجد في كلمته دلالات أو معاني تستحق التوقف عندها. واستمرت حكاية الزجاجة، حتى يومنا هنا بالانتشار، تخفت حيناً وتنتعش حيناً آخر، رغم مرور سنوات عليها.
قد يفسر بعضكم سبب رواج الحكاية وتصديقها بسخف عقول مؤيدي الأسد وغبائهم، ولكن ذلك ليس صحيحاً للأسف، لماذا؟ لأنني ارتكبتُ جناية أخرى قبل أسابيع قليلة، أكدت لي أن المعسكر الآخر لا يختلف كثيراً!
هذه المرة، كان عيد الحب، والجميع منشغل بالحديث عن العشق والعشاق، سواي، أنا الغارق في زحمة عملي الصحافي حيث قذفني خبر إلى جوف وكالة أنباء نظام الأسد، سانا، وعند الخروج منها، أمسكتُ موبايلي وسجلت مقطع فيديو مرتجل من دقيقة واحدة، أنّبت فيه المحتفلين بهذا العيد، الذي تجاهلوا أعياد الوطن، وعدّدت عليهم جملة أعياد غابوا عنها، ولا يمكنك إلا أن تضحك عند سماعها، كعيد الشجرة وعيد الطلائع وعيد الشرطة.. ولأزيد الطين بلة، دفعت بالسخرية لمداها الأقصى، سائلاً المحتفلين إن كانوا قد أهدوا نجاح العطار أو بثينة شعبان وردة حمراء في عيد الحب.
ما حدث بعد ذلك، وما يزال يحدث، أن مقطع الفيديو انتشر في عشرات الحسابات، المعارضة هذه المرة، والجميع وجد فيه دليلاً قاطعاً على غباء وسخافة مؤيدي الأسد. أرسل لي الأصدقاء عشرات الروابط ولقطات الشاشة لأشخاص نشروا الفيديو مذيلاً بشتائم مقذعة تنال من كل ما يخطر في بالكم من هذا الشبيح- الذي هو أنا في هذه الحال- الذي يدعو لمعايدة نجاح العطار في عيد الحب، ولم يقف واحد منهم للحظات لينظر في كم السخرية واللامعقولية التي يحملها الفيديو.
وأمام الجناية الثانية بدا واضحاً لي أن المشكلة لم تكن في عقول المؤيدين فقط، بل هي في عقولنا جميعاً، فبعيداً عن "التهريج الرخيص"، يبدو أن قسماً كبيراً منا، معشر السوريين، غير قادر على استيعاب السخرية، بل ويتعامل معها على أنها حقيقة لا يرقى إليها شك.
لم أصل إلى هذه النتيجة بالطبع اعتماداً على ما حدث معي، فما حدث فتح لي نافذة لمراجعة العديد من الوقائع السابقة التي كانت بادية السخرية، ولكن تم التعامل معها بمنتهى الجدية من المعسكرين المتحاربين.
ولكن لماذا؟
هل يعود الأمر إلى رغبتنا في تصديق كل ما من شأنه أن يعزز سردياتنا ومواقفنا دون أن نعرّضه لقراءة واعية ناقدة؟ كما يحدث مثلاً مع المتدين الذي قد يكون بروفيسوراً في جامعة مرموقة، ولكنه يصدق حكايات الخوارق وكرامات الأولياء بكل تسليم؟ هل ذلك سبب كافٍ حقاً لجعلنا نتجاهل رؤية السخرية المكتوبة على جبين الحكاية بكل وضوح؟
ربما كان لعقود من هذا الكبت الذي مارسه علينا نظام الأسد دور في جعلنا حقاً "لا نضحك للرغيف السخن"، نصدق كل ما يقال باعتباره رواية رسمية نمتثل لها بالخضوع والتسليم
أم أن الأمر متصل بالحصار المعرفي والمعلوماتي المفروض علينا؟ بحيث لا نستطيع التمييز بين الحقيقة والخيال، إن كان موجوداً حصار كهذا في عصر السوشل ميديا والفضاءات المفتوحة.
أم أن الأمر أعمق من ذلك، وربما كان متصلاً بطبيعة الأنظمة الدكتاتورية المستبدة، حيث يغيب النقد والتفكير النقدي وتعدد الأصوات، ويسود صوت الحاكم الأوحد والحزب الأوحد، والويل والثبور لمن يشكك برواية السلطة؟ ربما كان لعقود من هذا الكبت الذي مارسه علينا نظام الأسد دور في جعلنا حقاً "لا نضحك للرغيف السخن"، نصدق كل ما يقال باعتباره رواية رسمية نمتثل لها بالخضوع والتسليم، دون أن نجرؤ على القول "إنا نرى الملك عارياً". إلى درجة أن كل ما هو "غير معقول" يمكن أن ينتقل بكل بساطة إلى دائرة "المعقول" بمجرد اتصاله بشكل ما بهذا النظام الذي "لا يُكذّب عليه شيء".
ربما تكون كل الأسباب والتفسيرات السابقة صحيحة، وربما يتصدى للأمر من هو مختص في علم الاجتماع أو علم النفس فيجد تفسيراً آخر، ليس ذلك ما يشغلني حقيقة. ما يثير قلقي هو أنه أمام هذه الحال ستغدو كتابة السخرية أكثر صعوبة وتعقيداً، فإذا كان نظام الأسد سخرية، أو "مسخرة" بكل تاريخه المترع بالانتصارات والصمود والشعارات والحكايات والبطولات، فكيف لنا أن نسخر من السخرية؟ أي عبث هذا؟ وبشار الأسد، والحال هكذا، هل سيبقى "سيادته" أم سيصبح "زميلاً" يبزنا جميعاً -معشر الساخرين- في صناعة الضحك؟