تُصر إدارة الرئيس جو بايدن على ممارسة الصبر الأقصى في مفاوضاتها النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فبعد سبعة عشر شهراً من المفاوضات، غير المثمرة، لا يزال الأمل معقوداً من قبل الإدارة ذاتها على تطويع الرغبة الإيرانية في العودة للاتفاق النووي، رغم الشروط التعجيزية التي وضعتها إيران كي تمارس الابتزاز السياسي لبايدن وإدارته بعد إدراكهم أن هذه الإدارة جادة وترغب في عودة إيران للاتفاق، فبينما يتحدث بايدن والساسة الأوروبيون المتعبون من حرب أوكرانيا، عن أفق وأمل جديد في المفاوضات، تجلى أمل جديد في التوقيع على الاتفاقية التي يتوقع كثير من المفاوضين والمراقبين الأوروبيين أن يتم التوقيع عليها قريباً.
ومن غير المحدد بالضبط سبب هذا الأمل، لولا تنازل إيران عن شرطين أساسيين في المفاوضات كانت قد أضافتهما مؤخراً هما :إزالة الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب. الأمر الذي رفضه الكونغرس وحلفاء واشنطن تماماً، أما الشرط الثاني الذي تنازلت إيران عنه فهو ضمان إيران من الإدارة الأميركية عدم انسحاب أي حكومة جديدة من الاتفاق النووي، كما فعلت إدارة الرئيس دونالد ترامب سابقاً في عام 2018، مما زاد الطين بلة على أزماتها الاقتصادية.
لُبّ المفاوضات يتركز حالياً على السماح لإيران بتصدير النفط والغاز من أجل إحداث انفراجة اقتصادية على الوضع الاقتصادي المزري في المدن الإيرانية، في مقابل السماح بالتفتيش الدولي، وإيقاف تخصيب اليورانيوم فوق عتبة يحددها الاتفاق.
الروس يعلمون بالتحديد معنى السماح بتصدير النفط الإيراني، فبعد رفض السعودية زيادة إنتاج النفط والغاز لأكثر من 100 ألف برميل يومياً، وهي القادرة على زيادة مليون ونصف المليون برميل زيادة على إنتاجها يومياً، ساعد الروس كثيراً في الحفاظ على سعر برميل النفط المرتفع حالياً في الأسواق.. الأمر ذاته الذي أضرّ بأسواق الطاقة الأوروبية والأميركية، وخفّض القدرة الشرائية لدى المواطن الأوروبي، بينما سمح للروس بضمان تدفق المليارات من عائدات النفط لدعم الغزو الروسي لأوكرانيا، ولحماية اقتصادها من الحصار والعقوبات الغربية.
المشتري الأول للنفط الروسي حالياً هو الهند والصين الذين لم تستطع إدارة بايدن ثنيهما عن شراء النفط الروسي بأسعار تنافسية مغرية(75 دولارا للبرميل) وسط حصار كبير على النفط الروسي من قبل الزبائن التقليديين.. فإن هبط سعر النفط دولياً، فذلك سيلغي أي أفضلية اقتصادية للروس في بيع النفط للهند والصين.
وبناء عليه فإن إدارة بايدن تراهن بعد الرفض السعودي لتخفيض سعر البرميل الذي تستفيد منه السعودية كذلك من أجل تمويل خطط التنمية ومشاريع المدن الجديدة، على عودة النفط الإيراني للسوق، وضخه بكميات كبيرة مما سيزيد العرض ويخفض السعر بشكل كبير جداً. بحيث لم تستطع روسيا أن تمنع إيران من التوقيع على هذا الاتفاق الذي تنتظره إيران منذ سنوات طوال، فهل ستعتبر روسيا التوقيع على اتفاقية فيينا خيانة للحلف المعقود بينهما، أم أن هنالك ترتيباً جديداً يطول ملفات عديدة في المنطقة.
فمن الملاحظ أن العديد من الاتفاقيات الثانوية بدأت تظهر للعلن في سياق مواز للاتفاق النووي، منها السماح لإسرائيل بتصفية تنظيم (الجهاد الإسلامي) المعروف ولائه غير المحدود لإيران في غزة، في مقابل صمت وحياد حركة حماس، بينما استطاعت إدارة بايدن تصفية أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة في وسط كابول، بعد استدراجه من قبل حركة طالبان، فقتل على شرفة منزل يتبع لأحد معاوني وزير الداخلية الأفغاني الحالي التابع لشبكة حقاني حليفة حركة طالبان، واستمرار الهدنة في اليمن، ورفع الغطاء عن نوري المالكي، رجل إيران في العراق، والسماح بعدم تمرير حكومة موالية له مجدداً.
فمن الملاحظ أن العديد من الاتفاقيات الثانوية بدأت تظهر للعلن في سياق مواز للاتفاق النووي، منها السماح لإسرائيل بتصفية تنظيم (الجهاد الإسلامي) المعروف بولائه غير المحدود لإيران في غزة
بينما بدأ التنسيق بشكل حثيث بين روسيا وإيران حول الملف السوري، لإعطاء أفضلية لملفات المنطقة ومنها التنسيق الاقتصادي والأمني بين طهران وموسكو في مواجهة واشنطن والغرب، فبوتين يرى أن الحليف القوي أفضل من الحليف الضعيف.
في مقابل أن أميركا تود إغراء طهران وسحبها من النطاق الروسي الصيني، لإضعاف الأخيرين، تقليدياً وتاريخياً، لم تخرج إيران عن النطاق الغربي مطلقاً، حتى سقوط نظام الشاه، وصعود الإسلاميين، في حين لم يمنع ذلك الخميني من تبادل المنفعة وتنفيذ الأجندات بالاتفاق مع الغرب.. طوال فترة حروبه مع العراق ومن ثم اجتياح إيران للشرق الأوسط واليمن، بغطاء أميركي من دون أن ننسى الاجتماع الذي عقده القادة المنتصرون في الحرب العالمية الثانية في طهران، في السفارة السوفييتية وقتذاك عام 1943 وتم تحديد إيران كغنيمة غربية، في مقابل السماح للسوفييت بحيازة البلقان وبولونيا ورومانيا.
تدرك حكومة خامنئي أهمية الدور الأميركي في مستقبلها في المنطقة، وتدرك كذلك أهمية الدور الروسي في بقائها حتى الآن دون سقوط نظامها، ولذلك تسعى لعقد موازنة، وإمساك العصا من المنتصف بين الطرفين، إلا أن الدور الوظيفي الإيراني، أو الدور الجيوسياسي لإيران، تاريخياً، لا يتيح لها الكثير من المرونة في الحركة، كما هو الحال مع دول أخرى مثل فنلندا أو تركيا أو الهند.
فإيران لا يمكنها أن تستمر في طموحاتها التوسعية دون غطاء من إحدى الدولتين، فهي لا تولي للتنمية المحلية والداخلية الأثر الكبير وإنما تسعى في عقد صفقاتها، إلى ضمان غضّ الطرف عن سلوكها الإقليمي الشائن، والمزعزع للأمن في المنطقة والعالم، ولذلك فهي لن تقدر على خلق توازن بين القطب الدولي الأميركي والقطب الإقليمي الروسي من دون التضحية بأحدهما.
وهي تدرك ذلك تماماً، فأي خلل في أداء دورها المطلوب منها سيجعلها مسرحاً للأحداث والانقسامات، مثل سوريا وأفغانستان وباكستان والعراق، لذلك يراقب الساسة الإيرانيون التطورات بدقة كبيرة، ويحسبون للمستقبل القريب الذي سيشهد تغييرات دولية في النظام العالمي الجديد الذي يتوقع الجميع ظهوره.