كونتونات المخمل وحرافيش الخراب السوري

2022.10.12 | 06:22 دمشق

كونتونات المخمل وحرافيش الخراب السوري
+A
حجم الخط
-A

كان نادي الشرق ونادي المطار من أكثر النوادي الأرستقراطية في العالم، لا يأتيهما إلا الأثرياء. يكتفون بلعب الورق على أنغام الموسيقا، ومن النادر جداً أن تسمع صوتاً مرتفعاً، فالكلّ يتحدث في همس ويتخاطبون عن بعد بالإشارات. يضعون على أعينهم النظارات المكبرة كلما دخل زائر جديد، أو لاحت في الأجواء رائحة من العطر تسبق سيدة حسناء. جنباً إلى جنب كانت هناك المقاهي الشعبية التي يجلس زبائنها على كراس خشبية صغيرة، يشربون الشاي ويستمعون إلى الحكواتي يقرأ سيرة عنترة بن شداد أو مغامرات الزير سالم...إلخ. أما الحفلات الخاصة بالمساجلات الشعرية وهمسات السمر والأنس، فأشهرها تلك التي كانت تتمّ في قصر الزعيم الراحل فخري البارودي ومنزل المطربة نورهان ومنزل الفنانة أنطوانيت إسكندر، وغيرهم من الشخصيات العامة وأصحاب الصالونات التي يجتمع فيها سياسيون وأدباء ووجهاء.

هذا بالتأكيد، ليس مشهداً من رواية رومانسية متخيّلة تصف الحياة الفارهة في إحدى العصور الغابرة المزدهرة. إنها الحياة السورية في دمشق إبان القرن الماضي. في زمن كان يتسع الوطن فيه للجميع دون استثناء، ويتسع للفرح أيضاً. يتصدّر فيه مانشيت إخباري، على سبيل المثال، يفيد بضرورة "إيجاد حلّ عاجلٍ لفائض البنزين" دون أن تفترّ الأفواه مشدوهة لاستحالته وغرائبيته. كما لا تبدو فكرة ترأس سياسيٌ مرموق الاحتجاجات ضد البطالة، وغلاء الأسعار، فكرة متفلتة من عقال اللامعقول. حصل هذا بالفعل عام 1941 عندما نظّم شكري القوتلي حملة إضراب لأصحاب المحال التجارية في دمشق، امتدت لتشمل البلاد بأكملها. ما اضطر الفرنسيين إلى تعيين خالد العظم رئيساً للوزراء الذي سارع إلى إطلاق الوعود لتحسين الوضع الاجتماعي.

ثمة "كونتونات" محصنة، منفصمة عن الواقع المأزوم، تقطنها الطبقة المخملية. تدلّ عليها صورٌ مسربة من الحفلات الخاصة، تظهر حجم الإنفاق المرتفع، وحالة البذخ الهائلة

التحول العلني في التفاصيل السورية بعد 1963 كان، لا شك، ضدّ تعميق التعايش الاجتماعي والاندماج الوطني، لتغدو الحياة بوابة لأزمات وصراعات دينية ومذهبية وقومية. زاد الطين بلّة نشوء طبقة مالية مشوهة شعرت بفائض في القوة في غياب المساءلة والقانون، وخصوصاً مع حقبة صعود الذئاب الشابة من أبناء الجيل الثاني من البعثيين الذين ورثوا السلطة.  وفي وقت يرى فيه علماء الاجتماع أنّه من الصعب رسم صورة تصف الفقراء "حرافيش الخراب" إبان الحروب، نظراً لاختلاف الملامح والمتغيرات في وجه الفقر في عموم المجتمعات. لكن إذا ما أردنا أن نرى بوضوح سياسات "الإفقار السوري" المتعمّد عن قرب، إضافة إلى الإحاطة بفنون تجفيف الحياة الاجتماعية والأخلاقية، التي مارستها الحكومات السورية المتعاقبة، لتحوّل الدولة إلى مزرعة للمحاسيب والموالين. فليس علينا إلّا أن نوسّع عدسة الكاميرا قليلاً.

وعليه سنرى أن ثمة "كونتونات" محصنة، منفصمة عن الواقع المأزوم، تقطنها الطبقة المخملية. تدلّ عليها صورٌ مسربة من الحفلات الخاصة، تظهر حجم الإنفاق المرتفع، وحالة البذخ الهائلة، ومشاهد تصويرية أقرب إلى الإنتاج السينمائي، الذي يوثّق تسابقاً محموماً على من يقدم الأفضل بصور أسطورية ومشاهد خيالية. هنا التكلفة ليست مهمة على أية حال، هي جزء بسيط وثانوي يعكس متعة الإنفاق الاستهلاكي الذي يتناسب مع مقدار الثروات المتراكمة.

في المقابل وفيما تحصي الحكومة عدد أرغفة الخبز على الفقراء، وهو في بعض الأفران لا يصلح علفاً للمواشي، لم تنقطع السلع المستوردة التي يستهلكها الأثرياء عادة. بل في مؤشر لافت، أثار العديد من الأسئلة، سماح الحكومة باستيراد المكسرات، والمشروبات الروحية، وطعام القطط والكلاب أواخر 2016، بعدما تراجعت عن قرار المنع تحت ضغط استياء الطبقة المخملية التي تعدّ هذه المنتجات جزءاً من "برستيجها" الاجتماعي العام.

عدسة الكاميرا تتسع أكثر، لتلخص الحياة السورية الراهنة بكلّ صدق وشفافية: مستشارة الأسد تدعو إلى ضرورة الصمود والتصدي، ومن وارداته تفتتح مطعماً، ثمن أقل وجبة فيه تعادل راتب شهر كامل لموظف في مناطق سيطرة النظام.. مع ولعها بأحذية كريستيان لوبوتان المرصعة بالكريستال وفساتين شانيل: زوجة الأسد تلبس فستاناً بقيمة عشرين مليون ليرة سورية خلال زيارة عادية لأحدهم، أي ما يعادل راتب موظف خلال 16 عاماً.. أتت هذه الزيارة بالتزامن مع فيديو يُظهر أحد مصابي الحرب يرقص فرحاً بطرفه الاصطناعي.. الشقيقان محمد وعلي، نجلا رامي مخلوف، يسافران إلى منتجع كان الفرنسي بطائرة خاصة، ثم يركبان سيارات فيراري لتنتهي رحلتهما في جزيرة ميكونوس اليونانية.. في المقابل مهاجرون سوريون يركبون قوارب الموت باتجاه الحلم الأوروبي الموعود، لتطفو أحلامهم الحلوة على سطح المياه المالحة، الغادرة.

ولنزد من الشعر بيتاً.. لو مرّ خبرُ تمكّن شركة "إيماتيل" من استيراد شحنةٍ من هواتف "آيفون" الجديدة،iphone 12  وiphone 12 pro ، وقبل دولٍ خليجية عدّة، لو مرّ في مكان آخر غير سوريا لبدا خبراً عادياً، لكنه في الحالة السورية لا بدّ سيثير كماً هائلاً من الأسئلة، وكلّها تقود إلى مكان واحد: كيف يمكن استيراد جهاز هاتف أميركي الصنع بينما لا يمكن استيراد المشتقات النفطية ومواد أولية كثيرة يفاقم غيابها أزمات السوريين؟

الثورة السورية بدأت كانتفاضة مدنية مطلبية، ترفض الذلّ وتكميم الأفواه، وتصرّ على الحرية، ولكنّ أحداً لا ينكر أنّ هناك جذراً اقتصادياً لهذه الثورة فاقم من الشعور بالظلم وإهدار الكرامة

وهكذا بين طوابير الآيفون وطوابير الخبز ربما ستبدو هذه الفوارق قابلة للنسيان أو التجاهل، لولا انتشار صورة لقفصٍ حديديّ أمام أحد أفران دمشق، حُشر داخله سوريون ينتظرون دورهم للحصول على الخبز. انتشرت الصورة بعد أيام عن خبر نفاد كمية الهاتف الجديد.

بطبيعة الحال بيّنت الحرب السورية أنّ سياسة "إعادة تدوير" المجتمع السوري، ليكون صالحاً للعيش لفئةٍ دون غيرها، كانت السياسة غير المعلنة منذ العام 1970، والسياسة المعلنة بعد عام 2011. وعليه لا يشكّك أي مراقب في أنّ الثورة السورية بدأت كانتفاضة مدنية مطلبية، ترفض الذلّ وتكميم الأفواه، وتصرّ على الحرية، ولكنّ أحداً لا ينكر أنّ هناك جذراً اقتصادياً لهذه الثورة فاقم من الشعور بالظلم وإهدار الكرامة.

الجدير بالذكر أنه تمّ توجيه عدة رسائل مفتوحة للأسد الابن، كان آخرها بعنوان "احذروا البطالة" نُشرت في موقع "كلنا شركاء"، والتي أنذرت بقدوم انتفاضة اجتماعية غاضبة قبل شهر واحد من الثورة السورية. جاء فيها: "إنّ البطالة تعني الفقر، والفقر يجرّ الجهل، والجهل يؤدي إلى ثورة اجتماعية..، وما حال تونس ومصر عنَّا ببعيد".

يقول نجيب محفوظ في رواية الحرافيش: "كيف يتسنى للحب والسلام أن يعيشا بين الفقر ونبابيت الفتوات". وعليه يستدعي واقع "تشرذم الوطن السوري"، -الذي ضاق على "حرافيشه" حتى ضاع منهم-، إعادة إنتاج مفهوم الولاء للدولة. فالأمور لا زالت في هذا السياق ضبابية، وسيبقى السوريون المفقّرون والمسحوقون على خلاف جوهري على مفهوم الوطن، بينما وزارة الكهرباء، على سبيل المثال، تخصّ فئة "الكونتونات المخملية"، لإمدادها بالطاقة الكهربائية لمدة 24 ساعة، عبر خط كهربائي مُعفى من التقنين بقيمة ثلاثمئة مليون ليرة سورية لكل 1 كم. مقابل ذلك يعيش 90% من السوريين بساعاتٍ تقنين تصل إلى أكثر من عشرين ساعة في اليوم.

في كتابه "طبائع الاستبداد" يقول عبد الرحمن الكواكبي: "الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشرّ، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وخالي الذل، وابني الفقر، وابنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال".