تتوارد خلال الأيام السابقة أخبار الأحداث المأساوية من مصر الحبيبة، والتي كان آخرها سقوط أحد الأعمدة الخرسانية لجسر طرقي على سيارات المارة في "الجيزة"، سبقه انهيار مبنى سكني مكون من 10 طوابق في منطقة "جسر السويس"، وسبقتهما كارثة اصطدام قطارين في منطقة "سوهاج".. بصورة كوارث إنسانية تخفق قلوب أبناء أمتنا دعاء لميتهم بالرحمة ولمصابهم بالشفاء ولذويهم ولأهلنا في مصر بالصبر والسلوان.
فاجعة جديدة..
— شبكة رصد (@RassdNewsN) March 27, 2021
انهيار عقار بمنطقة جسر السويس يزيد أوجاع المصريين pic.twitter.com/rSeChKCCTT
ومع ما تثيره هذه الحوادث من تعاطف مع الضحايا، فهي تفجر بالقدر نفسه غضباً على الأنظمة الحاكمة المجرمة في أوطاننا، وعلى مؤسساتِ حكمِها جميعاً دون استثناء، مجيبة ربما على واحد من أقدم أسئلة الربيع العربي: "ثورة ضد النظام فقط.. أم تجاوزه إلى مؤسسات الدولة؟"
بين كيان الدولة وكيان النظام
"هؤلاء يريدون إسقاط الدولة ومؤسساتها.. وإدخال البلاد في الفوضى"
كانت هذه العبارة -وما زالت- إحدى السرديات التي يرددها أصحاب المواقف الرمادية "اسماً"، والمتجاوزون لانتفاضة شعوبهم في وجه الأنظمة المجرمة الظالمة في شرقنا العربي، لاتخاذ مكان لا هم يميلون فيه إلى الشعوب ولا يؤيدون علناً الأنظمة، وإن كانوا في أحيان كثيرة يجرون عملية فصل جراحي معقدة غير واقعية لفصل كيان النظام عن كيان الدولة، مشددين على أن كيان الدولة حصن لا يُسمح بالمساس به.
فهم يتجاوزون في نظرتهم لمؤسسات الدولة كونها أداة وظيفية إنما وجدت لخدمة المواطنين، إلى اعتبارها -بشكلها الراهن- شرطاً لقيام الوطن، بل وربما يذهبون أبعد من ذلك باختزال "الهوية الوطنية" في كيان هذه المؤسسات، سابغين عليها هالة من القداسة المتوهمة التي تجعل حتى الحديث عن إصلاحها بشيء من الجذرية "خيانة"! وفارضين هذا التصور على شريحة واسعة من الثائرين المطالبين بالحرية، الذين يجد أغلبهم نفسه في موقع الدفاع عن مواقفه، والتأكيد على أن مطلبه بـ "إسقاط النظام" لا علاقة له بإسقاط هذه المؤسسات، مهما كان هذا الكلام عبثياً لا معنى حقيقياً له.
وربما تكون ثورة 25 يناير عام 2011 في مصر أكبر تجلٍّ لهذا الخطاب، فقد اكتفت الثورة بعزل رأس النظام الظاهر متمثلاً بديكتاتور مصر السابق "حسني مبارك"، والدخول في تجربة انتخابات ديمقراطية لاختيار حزب جديد على رأس مؤسسات الدولة السياسية، دون أن تقترب من البنية الصلبة لنظام الحكم السابق، والتي يتعارف عليها باسم "الدولة العميقة"، التي تملك حقيقة مؤسسات الدولة الأمنية والاقتصادية والعسكرية، والتي عادت بعد عام إلى مكانها الطبيعي على رأس "دولتها" بعد الإطاحة الدموية بالتجربة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ مصر.
وعلى منوال هذا الخطاب تقوم حركات الاحتجاج في العراق ولبنان اليوم -وفي الفترة السابقة- بالأمر نفسه! ففي الوقت الذي تهاجم فيه "أمراء الحرب" الطائفيين الممسكين بزمام العملية السياسية في البلاد والحكومات الناجمة عن اتفاقاتهم، مطالبة إياهم بالتنحي عبر شعارات المحتجين الجذرية "شلع قلع - كلن يعني كلن"، تقوم بالدفاع المحموم عن مؤسسات الدولة الأمنية والاقتصادية والعسكرية باعتبارها حصن البلاد والمنافح عن هويتها الوطنية الجامعة المحايدة، في تجاهل-غير مفهوم- للأساس المنحاز الواضح لبنية هذه المؤسسات، والذي يتجاوز النفوذ الكبير لطائفة أو حزب داخل صفوفها، إلى بنية "طائفية" كاملة تبدأ من أصغر وحدة فيها متدرجة إلى مفاصلها الحقيقية التي تملك القرار، وصولاً إلى قادتها الصوريين المنحازين كلياً لحساب الجهة المسيطرة.
وفيما يمكن تفهم الأسباب التي تدفع الرماديين للإصرار على هذا الخطاب، سواء تأييداً منهم للأنظمة القائمة أساساً، أو لعدم رغبتهم بالتغيير أو ربما باختصار لخشيتهم من الفاتورة العالية له، إلا أن المستغرب حقيقة هو التبرير الذي يسوقه الثوار أو المطالبون بالتغيير لتبنيهم هذا الخطاب، والذي يعللونه بـ"الواقعية السياسية"، التي تبحث عن أقصر الطرق لإسقاط النظام القائم، دون التسبب بانهيار الدولة، أملاً بأن يتمكنوا لاحقاً من العمل على إصلاح بنية هذه المؤسسات ليعاد تشكيلها على أساس وطني، والمشكلة في هذا الطرح هو تعارضه مع التجارب التاريخية القريبة الشبيهة، والتي تكون فيها هذه المؤسسات عصية على الإصلاح، بل منطلقاً للانقلاب على الثورات حال تحقيقها شيئاً من أهدافها.
في حين يبرر آخرون من طلاب التغيير تبني هذا الخطاب بكونه خطابَ "تطمين" إعلامي للشريحة الواسعة من المواطنين الذين يخشون "حالة الفوضى"، التي لم يعد يقتصر التهديد بها على شريحة "الرماديين"، بل باتت لازمة ثابتة للخطاب الذي تصدره الماكينات الإعلامية للأنظمة الحاكمة في مواجهة مطالب التغيير.
هل إسقاط مؤسسات الدولة يعني الفوضى؟
تثبت الثورة السورية بأعوامها العشر والمناطق الواسعة التي سيطرت عليها وأدارتها خارج سلطة النظام -وما زالت- أن شيوع "الفوضى" بعد انهيار مؤسسات الدولة هو كلام مبالغ فيه، بل مخالف للحقيقة في أحيان كثيرة.
فعندما دخلت الفصائل الثورية مدينة حلب في النصف الثاني من العام 2012 مسيطرة على ثلثي مساحتها، وباسطة نفوذها على مساحات واسعة شملت أجزاء كبيرة من أرياف المدينة، قام نظام الأسد برفع يد دولته كلياً عن المناطق الخارجة عن سيطرته، فلم يعد مسؤولاً عنها لا بأمنها ولا بأقواتها ولا بخدماتها ولا بأي شأن يخصها، لتدخل المنطقة المحررة -خاصة في المدينة- أزمة حادة بدأت مع غياب مادة الخبز عن قاطني الأحياء المحررة، ثم تدرجت حتى انقطاع الكهرباء والمياه وغياب البضائع، وبدا أن "الفوضى" التي يتم التحذير منها ستكون هي مآل هذه المناطق.
كانت المفاجأة حقاً أن عشرات المبادرات الأهلية المحلية تمكنت في وقت قياسي من نحت بنية بديلة لتوفير الخدمات في المنطقة المحررة، بداية من دورة كاملة لتوفير مادة الخبز والبضائع المختلفة في المدينة والأرياف، مروراً بتفعيل وسائل النقل العام وتنظيم الحركة داخل المناطق المحررة، وليس انتهاء بفرض حالة من الاستقرار عن طريق منظومة شرطية محلية بمرجعية قضائية بقيت متعددة، لكنها سمحت لأسواق المدينة بالازدهار، حتى بات قاطنو المناطق الخاضعة لسيطرة النظام تحت حكم مؤسساته يؤمونها لتوفير احتياجاتهم بل والاتجار فيها، وبقي الحال هكذا حتى بدأ النظام حملته المحمومة بالبراميل المتفجرة على المناطق المحررة مستهدفاً الحياة نفسها فيها.
اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب "أزمة الخبز في حلب.. 2012"
وعلى مدار الأعوام اللاحقة أبدعت الثورة السورية في مناطقها الخالية من سلطة نظام الأسد ودولته بإنتاج عشرات المؤسسات على المستوى العام وشبه الحكومي، والتي تشكلت في ظل المواجهة مع النظام، لكن بأساس يستلهم الإنسان غاية لها، وربما تكون مؤسسة "الدفاع المدني السوري" أو "الخوذ البيضاء" المشكلة رسمياً في تشرين الأول \ أكتوبر عام 2014 أفضل مثال يمكن سوقه عليها.
فالمؤسسة التي اتخذت شعارها من الآية القرآنية "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قدمت نموذجاً تطابق فيه شعارها مع عملها، متمكنة رغم محدودية مواردها التي لا تقارن بإمكانات دولة، ورغم حجم العمل الملقى على عاتقها في ظل ظروف حرب طاحنة، من الوجود دائماً في كل مكان احتاج إليها فيه المواطنون، مرتقية إلى مستوى حاجة الناس، بإصرارها الدائم على تطوير كوادرها وآليات عملها.
ولعل عملية الإنقاذ أواسط الشهر الجاري التي امتدت 55 ساعة بغية إنقاذ طفل (10 أعوام) سقط في بئر شمالي إدلب، والتي واصل فيها أكثر من 40 متطوعاً من كوادر الدفاع المدني العمل حتى بعد أن كانت احتمالات نجاة الطفل مستحيلة، وذلك بإحداث حفرة جانبية موازية للبئر بعمق 21 متراً، حتى لا يخاطروا بأي احتمال لإنقاذ حياته فيما لو انتشلوه مباشرة من البئر، لهي أكبر دليل على بوصلة هذه المؤسسة "البديلة" عن مؤسسات "دولة" النظام، المنحازة تماماً للمواطن \ الإنسان.
ماتزال فرق #الخوذ_البيضاء تعمل حتى صباح اليوم ومنذ أكثر من 36 ساعة لإخراج الطفل "حسن الزعلان" الذي سقط في بئر ببلدة كفر روحين شمالي إدلب،عبر الحفر بجانب البئر للوصول إليه وتواجه الفرق صعوبات كبيرة بسبب قساوة الأرض والعمق الكبير الذي علق به الطفل.#طفل_كفرروحين pic.twitter.com/iZFoGqeVjx
— الدفاع المدني السوري (@SyriaCivilDefe) March 17, 2021
وفي الوقت نفسه الذي تبذل فيه مؤسسة لا يجاوز عمرها السبعة أعوام في منطقة "خارج سلطة الدولة" في سوريا هذه الجهود كلها لاحتمالية قليلة في إنقاذ طفل، نجد في مصر مؤسسات واحدة من أعرق الدول العربية غير مبالية على ما يبدو بالكوارث المتتالية، ففي حادثة قطاري سوهاج اضطر الأهالي لقص حديد حطام القطارين بأنفسهم في محاولة إنقاذ العالقين، كما تطوع أهالي المدينة بنقل المصابين إلى المشافي بسبب شح سيارات الإسعاف، أما في حادثة عقار جسر السويس فقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي المصرية بالانتقادات بعد انتشار صورة آلية ثقيلة لرفع الأنقاض "بلدوزر" فوق أنقاض البناء الذي لم يتم إخراج العالقين تحته، مع احتمالية وجود أحياء بينهم، في صورة أكثر من كافية على انعدام الفرق بين "كيان النظام وكيان الدولة" في مشرقنا هذا.
الأهالي يقطعون حديد القطار بـ"الصاروخ" في محاولة لانقاذ العالقين أسفله #سوهاج pic.twitter.com/BYXPtoJAAg
— شبكة رصد (@RassdNewsN) March 26, 2021
قبل عدة أعوام صرح عضو مجلس الشعب التابع لنظام الأسد "خالد العبود" أن أهم مسعى لنظام الأسد في معركته ضد الثوار كان "منع نشوء دولة أو مؤسسات دولة في المناطق الخارجة عن سيطرته"، في إشارة واضحة إلى إدراكه أن مؤسسات دولة جديدة ممكنة البناء حال انهيار أو انسحاب القديمة، وأن إنشاءها خارج سلطته كنظام قمعي، سيجعل الناس يدركون تماماً أي وهم عاشوه عندما ظنوا أن مؤسسات دولة النظام التي امتهنت كرامتهم عقوداً ما هي إلا صورة مسخ لما يجب أن تكون عليه الدولة.. وما يجب أن تكون عليه مؤسساتها.