لا أبالغ حينما أشعر بأنّ أوّل شيءٍ أحمله في حقيبةِ سفري أينما حللت هي أغاني فيروز، ورغم أنها غير ماديّةٍ، ولا تأخذ حيزاً، فإنّي لطالما تخيلتُ أني خبأتُها مع ثيابي وذكريات الأهلِ والأصدقاءِ وحملتها معي إلى كلّ مكانٍ، وغالباً ما تكون أوّل شيءٍ "أفرده" في منزلي الجديد، فنجانُ قهوةٍ مع فيروز.
فيروز.. الحضور الدائم في كل رحلة
يحمل صوتُ نهاد وديع حدّاد كلَّ المشاعر دفعةً واحدةً: رائحة صباحِ المدرسة، والجامعة، والعملِ الأول، والحبِّ الأول، والدمعةِ الأولى، وكذلك حضر صوتُها في تشكيلِ قضايانا، حيث وضّحت مسرحيةُ "جبال الصوان" التي تُعدّ أحد أبرز الأعمال الفنية للسيدةِ فيروز، وقُدمت عام 1969 في كلٍّ من بعلبك ودمشق، مفاهيمَ أساسية بُني جزءٌ كبير من وعينا الوطني والسياسي عليها سابقاً.
تناولت المسرحية مواضيع احتلالِ الأرض، والظلم، والبطولة، والحرية، والتضحية، وتقول فيروز في إحدى أغنياتِ هذه المسرحية: "حامل الحزن بيهربوا منّه الناس"، هذه الجملةُ تحديداً حملتها معي في تركيا وفي فرنسا وحتى في علاقاتي الشخصية، ورغم أنّ الحزنَ كبير إلا أنني أرفض أن نحمله، وأذكّر نفسي دائماً بأنّه "في أمل .. وأوقات بيطلع من ملل".
بيروت ودمشق.. عاصمة الحب في صوت فيروز
واليوم، في ظل ما يحدث في لبنان، ورغم العنصريةِ والشماتةِ المضادة، يتسلل شعور مزدوج من الحزن والتعاطف مع بيروت: بيروت فيروز، وأرزةِ فيروز، وللعروسِ، وطيرِ الوروار، وبعلبك. حيث إنّها لم تحيي فقط محبةَ لبنان في ذاكرتنا الجمعية، بل كان لدمشق حصةٌ كبيرةٌ فيما غنّت وزرعت وغرست في وجداننا بصوتِها العذب. فلربما لا يختلف اثنان على أنّ "مرّ بي" قادرة على سحبنا من غربتِنا إلى بردى، أو بوصفٍ أدق إلى بردى الذي نتمناه في خيالنا. وكذلك حملت الأغنية غزلاً من أجمل ما قيل في "السوريات" والشاميات على وجه الخصوص، حينما كتب سعيد عقل وغنّت فيروز: "الهوى لحظ شآمية رقّ حتى خلته نفدا".
بين أسطورة الرحابنة والنظام السوري
لطالما كان لي مأخذان اثنان على فيروز، وكذلك كثيرٌ من السوريين/ات، فهي منغمسةٌ في الحبّ إلى حدّ الذوبان، وراء عاصي الرحباني زوجها، الذي يُعد أحد أعمدةِ الموسيقا العربية، وقدما معاً إرثاً موسيقياً خالداً، إلا أنني لطالما شعرت أنّها أهمّ، ولولا هذا الصوت لما وجدت أسطورة الرحابنة.
في المقابل، أكره ربطَ النظام في سوريا نفسه بها، وطرحَها كمخدّر لنتجاوز أزمةَ التعليم وقبح المدارس، والحُفر في الطريق والأوساخ في "السيرفيس"، أو الانتظار الطويل أمام وجوه موظفات الدولة منذ الصباح. كانت فيروز كمن يرشّ السكر على تلةٍ من الوجع إن لم أستخدم كلماتٍ أُخرى.
ميلاد فيروز التسعين.. إرث موسيقي خالد
ورغم ذلك، يحتفي العالم بعيد ميلاد السيدة الـ90، التي قدّمت ما يقارب 800 أغنية، و15 مسرحية، منذ بدأت الغناءَ في أواخر أربعينيات القرن العشرين.
وكان انطلاقها عندما اكتشفها الموسيقار محمد فليفل، أحد مؤسسي المعهد الموسيقي اللبناني، الذي لاحظ موهبتها أثناء دراستِها في المدرسة، شجعها على الالتحاق بالمعهدِ الموسيقي حيث تعلمت أصولَ الغناء والموسيقا.
وعلى الصعيد الشخصي، لا أحب أغاني فيروز المعروفة، وحتى أولئك الذين يسمعون ما تيسّر عبر الإذاعاتِ السورية، إذ إنّها تستحق بحثاً في نوادرها عندما تغني لأبسط الأشياء، وتحوّل كل عاديٍّ إلى شيءٍ يُذكر، كـ الريشةِ والأسطوحِ أو درجِ الورد.
فيروز.. دليل الحياة وسط الخراب
ورغم أنّ نزار قبّاني قال عن السيدةِ فيروز إنها "الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر، هي التي تجعلنا نشعر أن الزمنَ متوقف عند جمال صوتِها"، ووصف محمود درويش صوتَها بأنّه "جغرافيا صغيرة ..ويعيدنا إلى أوطان لم نعش فيها"، إلا أنّ القولَ الوحيدَ الذي أقنعني كان لبائعٍ متجوّلٍ في دمشق، لا أعرف عنه شيئاً، لكنّه كان يضع فيروز، وسألته لماذا وسط كل هذا الخراب؟ فأجابني: "صوت فيروز دليل حيّ على أننا أحياء، وعندما نتوقف عن سماعه فمعناه أننا لم نعد موجودين، ولم تشرق لنا شمسٌ جديدة".
هكذا وباختصار، علقَ صوتُ فيروزة السوريين بين أوجاعِهم ومشاعرِهم وغربتِهم وليالي حُبّهم والفراق، فأصبح من المستحيل فصلُه أو فصلُها عن ذواتِنا وعن من نكون.