الهجانة النقدية لا تخفق في مقاربة الظاهرة الفنية أو النص المدروس فحسب، بل تسيء إليه وتمسخه بهجانتها أيضاً، فكم من نص أدبي راقٍ وقع بين يدي ناقد يشكو من ندرة زاده المعرفي وموهبته الوقّادة، فانحدر النص وأصبح أشلاءً وضاعت قيمته، ولعلنا لا نذهب بعيداً إن أشرنا إلى العديد من الدراسات النقدية التي تناولت بالتحليل والبحث قصيدة (التائية الكبرى) لـ(ابن الفارض 1181م – 1235م)، إذ تحولت هذه القصيدة بين يدي بعض النقاد إلى جسد مُشرَّح مقطّع الأوصال، فضاع جوهرها بين الحديث عن التشكيلات البلاغية وفقاً للمفهوم التقليدي للبلاغة، وانحصرت شاعرية ابن الفارض في قدرته على التلاعب بالألفاظ وإدارة العبارات فضلاً عن بيان تأثره بالشعراء الأقدمين، أمّا الفحوى الحقيقي للقصيدة ( فلسفياً ونفسياً) فقد ظل شبه خافٍ، باستثناء إشارات خجولة من بعض هؤلاء النقاد إلى منابعه الصوفية، دون القدرة على ربط نزوعه الصوفي بالببنية الكلية للنص الشعري. إلّا أن (التائية الكبرى) ذاتها، تستعيد اعتبارها الفني والفكري لدى ناقد من فئة أخرى، أعني الناقد الذي يتأسس نشاطه النقدي على ركنين متكاملين لا بدّ من حيازتهما معاً: الزاد المعرفي الوفير والمتنوع، والموهبة التي تنطوي على مزيد من نفاذ البصيرة وسموّ الذوق وفرادة الإحساس، وهذا هو شأن الناقد المرحوم (يوسف سامي اليوسف 1938م – 2013م) في رحلته الطويلة مع الشاعر ابن الفارض، وعلى وجه الخصوص مع قصيدة (التائية الكبرى) التي لم تعد مجرّد انعكاس لإشارات وأفكار صوفية هنا وهناك، وإنما هي تعبير حقيقي عن رفض الشاعر الصوفي على العموم، لسلطة الزمان والمكان، وإصراره على أن تكون القصيدة عبارة عن (سياحة في معارج الذات) بل هي (سلسلة من الولادات المستمرة)، وإن كان ثمة قيمة جمالية لتائية ابن الفارض، فإنها لا تتأتّى من مجموعة الأفكار واللغة فحسب، بل من البناء الكلّي للنص الذي تتراكم الجزئيات في داخله لتجسّد إيحاءً بالنزوع نحو العمق والبحث عن النائيات، وفقاً للمرحوم اليوسف.
ولكنّ هذه الظاهرة تتجلّى أحياناً بطريقة معكوسة، إذ يقوم ناقد ما، أو مجموعة من النقاد بتسليط الضوء والعمل على نص، أو نصوص، وإنطاقها بما ليس فيها، وهم بذلك يُنطقونها بما في أذهانهم ونفوسهم، وبالتالي يصبح النص المدروس مجلى لأفكار الناقد الذي يسعى جاهداً لحشو النص بأفكاره بطريقة لا تخلو من التعسّف والاستخفاف بالقارىء، ولعل شيوع هذا النزوع النقدي كان نتيجة استلهام العديد من النقاد العرب لبعض المناهج النقدية الحديثة التي انبثقت من سياقات ثقافية وفلسفية ذات صلة بسيرورة الواقع الاجتماعي والفكري الغربي، كالمنهج البنيوي الذي يرى أن القيمة الأدبية في النص تكمن في تعاضد أجزائه ومفرداته بعيداً عن أي عامل أو دور خارجي، وبالتالي يغيب دور الكاتب أمام الناقد البنيوي الذي يشعر – حين يُقصي أو ينحّي صاحب النص – أنه بات صاحب الكلمة العليا في تحديد المصير الجمالي للعمل الأدبي من جهة تحكّمه بالبناء العام للنص. فيما جاء منهج ( التفكيك) لينزع أصحابه عن النص الأدبي المجرّد أية قيمة، إذ إن قيمة النص يحدّدها القارىء بعيداً عن المؤلف، مع الإشارة إلى الخلاف الواضح بين المدرستين، إذ إن مرجعية النص لدى البنيويين تكمن في النص ذاته، بينما تنتقل المرجعية إلى القارىء لدى التفكيكية التي جاءت كردّ فعل على النزعة العقلية الصارمة التي وسمت البنيوية، فاعتمد الناقد التفكيكي على قوّة الحدس والمشاعر للتخلّص من سطوة النزعة العقلية، إلّا أن نقاد المدرستين يلتقيان في مسألة محورية وهي إقصاء العوامل الخارجية في دراسة النصوص، بما في ذلك صاحب العمل. وبتأثير هذين المنهجين النقديين أصبحنا أمام دراسات تسلّط الضوء على نصوص تكاد تغيب عنها المعالم الأدبية، سواء من جهة المعاني أو البنية اللفظية، فحين يكون النص الشعري مثلاً موغلاً في الغموض والضبابية دون أن يترك أية قرينة يستمسك بها القارىء أو أي بصيص ضوء يتيح لنا التواصل مع النص، ليأتي دور- الناقد – القارىء – التفكيكي باستنطاق طلاسم النص، ليس استناداً إلى مرجعيات ذات دلالة عامة وواضحة، بل استناداً إلى حدوسه الداخلية وإحالاته الشعورية التي لا تزيد النص إلّا غموضاً، مع التأكيد على أن البنيوية والتفكيكية معاً هما منهجان تحليليان ولا تُعنيان بحكم القيمة النقدي الذي يكاد أن يكون جوهر العملية النقدية، وعلى ضوء ذلك بات بوسع القارىء – الناقد – أن يُعلي من شأن نصوصٍ ويحطّ من شأن نصوص أخرى وفقاً لمعايير تنبثق من ذاته هو، ولا تنبثق بالضرورة من النص المدروس.
لقد قدمت المناهج النقدية الغربية الحديثة – بالفعل – كشوفات هائلة ومساحات واسعة للرؤيا أمام النقد العربي الحديث، أسهمت – إلى درجة كبيرة – في تمكينه من تجاوز النقد الإيديولوجي الذي ازدهر وتسيّد حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، ولا شك ان هذه الثمرات النقدية الحديثة جاءت نتيجة للنقلة النوعية في الغرب للعلوم الإنسانية وبخاصة العلوم اللغوية الحديثة التي انبثقت منها البنيوية، وكذلك علم الاجتماع والانثربولوجيا ، الأمر الذي أطاح بالتخوم الفاصلة بين حقل معرفي وآخر، وبالتالي بات النقد الأدبي مستفيداً من هذه الطفرة العلمية التي زوّدته بادوات معرفية أكثر غنًى وعمقاً بالتعاطي مع النصوص، إلّا أن هذا الأمر لا يجعلنا نغفل عن الكيفية التي تعاطى بها العديد من النقاد العرب مع تلك المعطيات النقدية الحديثة، ولئن كنّا نأخذ على الناقد الإيديولوجي التقليدي وقوع تفكيره النقدي في أسر المرجعيات العقدية القائمة خارج فضاء النصوص، فإن ما وقع فيه بعض نقاد المدارس الحديثة لا يعدو كونه وقوعاً في أسر تلك المناهج والامتثال التام لمقولاتها الفلسفية التي لا يمكن أن تكون صوابيتها مطلقة في كل زمان ومكان، وكذلك لا يمكن ان تكون صالحة للاستنبات في جميع الحقول المجتمعية، متجاوزةً الخصوصية النوعية للحضارات وثقافات الشعوب.
ما من شك أن براعة الناقد لا تكمن في حيازته المعرفية وقدرته على امتلاك مفاتيح المناهج النقدية الحديثة فحسب، بل بقدرته أيضاً على التحرر من السلطات المرجعية الإيديولوجية لتلك المناهج ذاتها، وعلى هذا الصنف من النقاد ينعقد الرهان حول وجود نقد عربي حديث متجاوزٍ لماضويته ومتحرّرٍ من تبعيته الإيديولوجية بآن معاً.