في خطوة ربما توقعها الكثيرون، تراجعت الإدارة الذاتية لقسد عن قرارها المتضمن إصدار ( القانون رقم 7 ) الذي أطلقت عليه ( قانون حماية أملاك الغائب)، و ذلك من خلال بيان أكّدت فيه تعليق تنفيذ القانون المشار إليه بسبب اللغط الذي أحدثه في الأوساط القانونية والسياسية، كما أكدت أنه سيعاد النظر في هذا القانون وفقاً لما يجسّد تطلعات الناس ومستجدات الحاضر. فيما يرى كثيرون أن التراجع عن هذا القرار كان نتيجة ردّة فعل صاخبة ربما لم تتوقعها قسد، وكان من الممكن أن يكون لردّة الفعل هذه تأثير كبير على قسد، من الناحيتين، السياسية والعسكرية، وذلك نظراً لما تشهده مناطق سيطرتها في شرق الفرات من حالات توتر شديد، لذلك كان الأولى بقسد أن تمضي باتجاه احتواء أي ردّة فعل شعبية تستهدف وجودها. وأيّاً كان الشأن فإن تراجع الإدارة الذاتية عن قرارها، مهما كانت الأسباب والموجبات، وسواء اكان هذا التراجع نتيجة لردّات الفعل ومظاهر الرفض، أم لغير ذلك، فهو خطوة بالاتجاه الصحيح، بل ويتضمن مقداراً من الحكمة التي كنا نتمنى لو أنها كانت جزءاً أساسياً من تفكير وسلوك الإدارة الذاتية، وليست رضوخاً لموجبات راهن محدّد.
ما تريد الوقوف عنده هذه المقالة لا يكمن في التجليات المادية (للقانون 7)، سواء تم تنفيذه أم تعليقه أو إلغاؤه، وإنما الهدف هو معاينة السلوك الفكري والأخلاقي، وكذلك المَعين القيمي المُنتِج لهكذا قوانين أو قرارات، ليس لدى منظومة قسد فحسب، بل لدى معظم سلطات الامر الواقع التي تعاقبت على التموضع في الجغرافية السورية منذ العام 2013 وحتى الوقت الراهن.
من هم الغائبون؟
هل هم الملايين من السوريين الذين فروا بأرواحهم من جحيم الحرب التي شنّها نظام الأسد بطائراته وبراميله المتفجرة، وهل هم الذين نزحوا لينجوا بأنفسهم من سواطير الجماعات الإرهابية المتطرفة ومن الجور الذي كرّسته الفصائل والقوى الشمولية التي تمتهن الذبح، أم هم الذين قامت قسد ذاتها بتهجيرهم من بلداتهم وقراهم ولم يتمكنوا من الرجوع إليها حتى الآن؟ بالتأكيد هم هؤلاء جميعاً ممن ينطبق عليهم مصطلح ( الغائبون) وفقاً للتسمية المذكورة، ولا شك أن هؤلاء الغائبين هم الطرف الأضعف والأكثر استهدافاً ليس من جانب قسد فحسب، بل من جانب نظام الأسد الذي سبق الإدارة الذاتية بإصد ار القانون رقم 10 ) الذي يصب في المنحى ذاته، وكذلك من جانب تنظيم داعش حين أصدر عدة فتاوى تعتبر هؤلاء الغائبين قد فروا من واجب الجهاد ولجؤوا إلى بلدان الكفر، وبالتالي يصبح السطو على ممتلكاتهم أمراً مشروعاً، إذاً نحن أمام ثلاث إرادات مختلفة في السلوك والمرجعيات، ( الأسد – قسد – داعش)، إلّا أن تلك المرجعيات التي انحدرت منها هذه ( الإرادات) تتجاهل تماماً المحرقة التي يتعرض لها السوريون على مدى اكثر من تسع سنوات، بل تتجاهل أن ما يقارب سبعة ملايين من السوريين قد أصبحوا خارج البلاد، ليس بدافع السياحة أو الرغبة في تغيير الموطن، ولا بدافع حب المغامرة بركوب البحار والمجازفة بالأرواح، ولا بدافع الإنتجاع في الخيام أو العراء، وليس استمراءً للإذلال وحالات الانكسار النفسي التي يعيشها اللاجئون في بلاد الغربة، بل إن معظمهم بكل تأكيد، قد غادر هرباً من الإذلال الأكبر الذي ما تزال تمارسه الأطراف الثلاثة ذاتها المصدّرة للقوانين، ويبدو ان هذه الأطراف لم تعد تكتفي بإجلاء السوريين عن بلدهم، وباتت تتطلع إلى الإجهاز على ما تبقى لهم من ممتلكات، سواء أكانت بيوتاً أم عقارات تجارية أم أراضي زراعية، المهم ألّا يفكر هؤلاء (الغائبون) بالعودة إلى بلدهم، بسبب اقترافهم جريمة الغياب.
ما لا يجب نسيانه، هو أن قسد، قبل إصدارها للقانون7، ومنذ صيف 2016، هجّرت خمسين ألف مواطن من بلدة شيوخ فوقاني في ريف حلب الشرقي
ما لا يجب نسيانه، هو أن قسد، قبل إصدارها للقانون7، ومنذ صيف 2016، هجّرت خمسين ألف مواطن من بلدة شيوخ فوقاني في ريف حلب الشرقي، كما أزاحت قرى كاملة من الوجود، بحجة ضرورات مواجهة تنظيم داعش، كما هجّرت آلاف السكان من قرى وبلدات ريف حلب الشمالي، تحت غطاء وحماية روسية، كما تضع يدها – في أماكن سيطرتها – على ممتلكات العديد من الناشطين المدنيين بحجج وذرائع شتى، وعندما تثار هذه المسائل، ينبري الكثيرون بالقول: أنظروا إلى انتهاكات الفصائل الإسلامية في عفرين والباب وجرابلس وسواها، وكأن المشكلة لا تكمن في أصل الفعل المشين ، بل تكمن في نسبة ممارسته، ثم ما علاقة المواطنين المدنيين الذين يتم تهجيرهم واقتلاعهم من بيوتهم والاعتداء على حقوقهم بالفصائل الإسلامية وسلوكياتها، وهل هذه الفصائل باتت تجسّد تطلعات السوريين، أم هي الحامل الأخلاقي لقيم الثورة السورية؟
وما لا يجب نسيانه أيضاً، هو أن كل طرف انتهك حقوق السوريين كان وما يزال يستظل بمظلة دولية تحميه، وبجمهور يبارك له حيناً، ويبرر له سلوكه حيناً آخر، ولئن شهدنا قسماً من جمهور الإسلاميين قد عقد الآمال على داعش أيّام كانت تسيطر على ثلث الجغرافية السورية، معتقدين أن تباشير دولة الخلافة قد أوشكت على التحقق، وبات – حينها – أي حديث عن جور داعش ضرباً من الكفر، فإننا من جهة أخرى، لا نعدم قسماً لا بأس به من ( اليسار الداعشي) لا يرى في ضحايا قسد سوى دواعش يجب التخلص منهم، وكذلك لا يرى في شعار (محاربة الإرهاب) الذي ترفعه قسد، سوى مبرر لممارسة إرهاب من نوع آخر. ولعل هذه الأنماط من ممارسة السياسة في سورية هي ما تجعل المقاربات الأخلاقية أكثر إلحاحاً وحضوراً.