فرار إلى غير هدى

2022.09.19 | 06:33 دمشق

عودة السفر برلك
+A
حجم الخط
-A

هويةٌ بلا وطن تشهدها أفئدةٌ هربت فارَّةً من الموت وفظاعات الحرب، لتعيش متجرعةً كأس الغربة ومجترَّةً ذكريات الماضي بما فيه من عاداتٍ وتقاليد وأعراف اجتماعية تكاد تنقرض بالتقادم في ثنايا الغربة المظلمة.

وطنٌ بلا هوية عبثت به أيدي الظُّلام، وتحوَّل إلى قطعة كعكٍ يتنافس لتقاسمها وحوشٌ ضاريةٌ لا تشبع، فانطبق عليه قول الشاعر: "نُفيت واستوطن الأغراب في وطني"، فشهد أهله أكثر من عقدٍ من الشتات.

وما لا تٌخشى عُقباه أن يأتي جيلٌ بلا هويةٍ ولا وطن..، جيلٌ لم يرتوِ من العاصي أو الفرات، ولم يذق حلاوة العنب الدوماني أو طيابة الخضراوات التي تغذت من تراب حوران، جيلٌ لم يشتَم عبق الياسمين الدمشقي ولم ينتشِ برائحة تراب الشام بعد هطول المطر، بل كل ما يعلمه عن وطنه هو ما يُروى له من أهوالٍ حصلت مع أهله في الحرب وأثناء النزوح.

الأميرة التي كانت في قصص الخيال قد تم الاستعاضة عنها في الواقع بعجوزٍ، تدَّعي القوة على الرغم من مرضها وعجزها، قرر هؤلاء الشباب أن يسلموها مستقبلهم ومستقبل أولادهم

لطالما كنت أتذكر عندما أضع رأسي على الوسادة لأنام حكايا الجدات العجيبة عن الفتى الشجاع الذي يقطع البحار والجبال والأنهار ويُصارع الوحوش ليحوز في النهاية على الأميرة التي يتزوجها بعد اجتياز الصعاب ليصبح أميراً سعيداً ويعيشون في نهاية القصة في سعادةٍ وهناء، ولكنني الآن عندما أذهب إلى النوم  أتذكر المئات، لا بل والآلاف من الشباب الذين يمشون في الظلمة في أعماق الغابات الموحشة ليقطعوا حدوداً ودُولاً سيراً على الأقدام، يسيرون وكل واحدٍ منهم بمثابة قصةٍ تحوي في جعبتها الكثير عن عائلةٍ وأطفالٍ تركوهم وراءهم ليصنعوا لهم غداً أفضل بحسب ظنِّهم، يسيرون وكل واحدٍ منهم يعيش حُلماً لا يدري أسيكون حقيقةً أم أن جرَّة العسل ستُكسر فوق رأس صاحبها فيكتشف أنه يُصارع طواحين الهواء التي قد تصرعه فيسقط في غياهب الغابات لأن زملاءه عاجزون عن الالتفات إلى الوراء؛ فمن يتهاوى  ينتهي أمره بكل بساطة.

ولكن الأميرة التي كانت في قصص الخيال قد تم الاستعاضة عنها في الواقع بعجوزٍ، تدَّعي القوة على الرغم من مرضها وعجزها، قرر هؤلاء الشباب أن يسلموها مستقبلهم ومستقبل أولادهم لتطهوهم على نارها الباردة، وتبتلعهم بعد أن تُغريهم بحفنةٍ من رغد العيش مع رشةٍ من توابل الإنسانية المزيفة التي تُغري كل من يسعى نحو العيش بكرامة.

ربما لم يقرأ هؤلاء الشباب قصة فاوستوس الذي تعاقد مع لوسيفر ـ كبير الشياطين  عبر الوسيط ميفستوفيلس، وهو شيطانٌ دبلوماسيٌّ محنك أغراه بأن يمتعه العقد الذي وقَّعه بدمه بالقوة والعلم المطلقين على أن يهب روحه للشياطين بعد مدةٍ متفقٍ عليها في العقد، فكان بذلك ضحية خديعةٍ كبيرةٍ لم ينل منها إلا الزيف والخداع.

وربما أيضاً لم يعلموا أن مارلو الذي كتب تلك المسرحية منذ قرون كان يلمِّح بلوسيفر كبير الشياطين إلى ذات المرأة العجوز التي قصْدتُ، والتي كان مارلو من رجالها أصلاً.

لقد كان قلمي يريد أن يكتب عن الحفاظ عن الهوية والانتماء للوطن ومدى الاندماج مع الشعوب الأخرى بطريقةٍ لا تُمحى بها الهوية، فوجدته يخذلني ليتكلم عن قضية المصير قبل الهوية.

تُرى لماذا ضاقت علينا الأرض بما رحُبَت؟ قد يظن من يقرأ كلامي بأنه ضربٌ من التنظير ففي هذه الظروف لن يتقبل الشباب لوماً أو نقداً، أو نصيحةً، فقد بذلوا قصار جهدهم ولكن لم يوفقوا في غاياتهم، ولكنهم لم يدركوا خطورة أبعاد الموضوع فهم يفكرون الآن بعيشٍ كريمٍ وحسب،

وأنا لا ألومهم في هذا فقد شهدوا الكثير من تعذيبٍ وتهجيرٍ وموتٍ للأحباب ودمارٍ للبيوت بما تحوي من دفءٍ وذكريات، كما أنهم ـ كأيِّ والدٍ في هذه الدنيا ـ يسعون لتأمين مستقبل أولادهم، ولا يريدون لهم أن يتأثروا بهذا الكمِّ الهائل من التغيير الذي حصل على حياتهم وشاب استقرارها.

هُم مُحقُّون في كُلِّ هذا فما حصل للأطفال السوريين من ألمٍ وخدشٍ للطفولة شيءٌ يشيب له الولدان، يفوق في فظاعته عذابات بائعة الكبريت التي كُنا نتعاطف معها ونحن صغار، وغيرها من الأطفال المعذَّبين الذين نقرأ قصصهم فلا نستطيع أن نتخيل وجودهم في الحقيقة.

أليس لهؤلاء الأولاد القابعين في المخيمات، أو النازحين الذين لا تزال بعض ذكريات الدمار عالقةً في خيالهم، أو القابعين مع عائلاتهم في سراديب الغربة والغلاء لا يعلمون كيف يؤمنون لقمة العيش أو ماذا ينتظرهم من مصير، أليس لهم الحقّ في أبسط مقومات الحياة؟ كما أنَّ آباءهم يطمعون أيضاً في عيشٍ كريمٍ يعوضهم عن خساراتهم وهمومهم.

هذا كلُّه صحيح، ولكننا لا نريد أن نعيد قصة فرح في بيروت 75 الذي حصل على كل شيء، ولكنه فقد ذاته، ففقد عقله في النهاية.

لقد بدأت مخاوفي حينما قررت اللجوء إلى إحدى الدول، حين تلقينا الدورة الثقافية التي تُحضِّرك للعيش في البلد، وحينها تلقينا بعض التدريبات، وكان علينا فيها أن نحدد من هو النموذج السليم الذي اندمج مع المجتمع، فكان النموذج السلبي هو ذاك الذي يعبر عن شخصٍ ظلَّ يحن إلى الوطن ويشاهد الأفلام القديمة ويبكي وهو يشمُّ رائحة وشاح أمه الذي أخذه على سبيل الذكرى، وأما النموذج السليم فكان يعبر عنه فتاةٌ عملت في إحدى البنوك وأتقنت اللغة وحازت على سيارةٍ فاخرة واقتنت قطةً جميلة، وهي في طريقها لتحضر فيلماً في السينما مع صديقها الصيني أو الياباني.

لنصحو ولِنَلُم شتات هويتنا، ونربي أولادنا على ما تربينا عليه، لنحكي لهم قصص الماضي والزمان الجميل في وطنٍ نأمل بأن يعود

والسؤال هنا: هل في كل ما نعانيه مبررٌ لإلقاء أولادنا في تلك المزالق التي ستنزع عنهم هويتهم وسيتجردون فيها من دينهم وقيمهم بعد أن نُزِع منهم وطنهم؟

ثم ماذا بعد؟ وإلى أين المصير؟ والمقصود هنا مصيرنا ومصيرهم، وكأننا في موجةٍ جماعيةٍ من الهذيان نفر فيها على غير هدىً إلى مجهولٍ نعلل النفس بأنه قد يكون فيه الحل لكل مشكلاتنا، وقد نسينا دفاعنا عن قضايانا وعن مبادئنا ومعتقداتنا، والنتيجة قد تكون بعد أعوامٍ كارثةً لا تُحمد عقباها من الضياع.

فلنصحو ولِنَلُم شتات هويتنا، ونربي أولادنا على ما تربينا عليه، لنحكي لهم قصص الماضي والزمان الجميل في وطنٍ نأمل بأن يعود، لنعلمهم أن النصر يكون بالصبر وأن مع العسر يسرين، وأن الوردة التي تُقتلع من جذورها تموت بسرعة وإن بدت لك أجمل في الزُّهرية المزخرفة.

لنحكي لهم عن قصص أعلامنا ومعاناتهم في أزمنةٍ كانت أصعب من أزمنتنا ليدركوا أن الأزمات تصنع الرجال، دعونا نزرع فيهم وطنهم الذي سُلِب منهم علهم يعودوا إليه فيُعيدوا له الحياة.