مع إعلان فوز دونالد ترامب في انتخابات الخامس من نوفمبر 2024، عادت التساؤلات لتثار حول تأثير عودته على السياسة الخارجية الأميركية، خصوصًا في الشرق الأوسط. وخلال ولايته الأولى، اتخذ ترامب قرارات مفصلية غيّرت معادلات شرق أوسطية، مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، وإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وفرض عقوبات صارمة عبر "قانون قيصر" على نظام الأسد في سوريا. كما أطلق "صفقة القرن"، وشهدت فترته توسعًا للعلاقات بين دول عربية وإسرائيل برعاية صهره جاريد كوشنر، وخاصة المغرب والسودان وعُمان والإمارات والبحرين.
واليوم، عاد ترامب إلى البيت الأبيض مدعومًا بأغلبية قوية للجمهوريين في الكونغرس، مما يعزز قدرته على فرض أجندته السياسية بلا معارضة تُذكر. وحسب دانيال دريزنر في مقاله "نهاية الاستثنائية الأميركية" في موقع فورين أفريز، تبدو الرسالة واضحة للعالم: حركة "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا"(MAGA) ستواصل تشكيل السياسة الخارجية الأميركية. ولكن هناك اختلافات رئيسية بين فترته الأولى والثانية؛ أولًا، سيدخل ترامب فترته الثانية بفريق أمن قومي أكثر تجانسًا وتوافقًا مع رؤاه. وثانيًا، العالم في 2025 بات أكثر تعقيدًا، مع تغيرات كبرى في موازين القوى الدولية. وثالثًا، أصبح خصومه الدوليون أكثر إدراكًا لأسلوبه ونهجه القائم على الإكراه، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية و"نظرية المجنون" (Drezner, Daniel W, 2024).
- ترامب والتحولات في السياسة الأميركية تجاه إيران والخليج العربي
في قلب السياسة الجديدة، يظهر التركيز على دور إيران الإقليمي وملفها النووي، حيث يعتمد ترامب نهج "الضغط الأقصى"، الذي تجسد في فترته الأولى من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي (2018)، وإعادة فرض عقوبات اقتصادية قاسية طالت قطاعات النفط، والمال، والطيران. وقد أسفرت هذه العقوبات عن تراجع كبير في الاقتصاد الإيراني، ووفقًا لتقرير صادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) عام 2023، فإن هذه السياسات لم تؤثر فقط على الداخل الإيراني، بل أعادت تشكيل التوازن الإقليمي لصالح خصوم طهران في المنطقة. وربما سيكون الضغط الأميركي من خلال تقليص نفوذ حلفاء إيران وميليشياتها في سوريا والعراق واليمن على وجه التحديد، والضغط لإضعاف المساعي الدبلوماسية الغربية لإيجاد حلول لملف إيران النووي، والاهتمام في دعم الرؤية الإسرائيلية تجاه الدورر الإيراني في الإقليم.
وفي منطقة الخليج العربي، يُتوقع أن تعزز إدارة ترامب التحالفات التقليدية، لا سيما مع السعودية والإمارات، بوصفهما محورين أساسيين في الاستراتيجية الأميركية لمواجهة ما يُعتبر "التهديد الإيراني" واستكمال "خطوات التطبيع مع إسرائيل". فمن المرجح أن تشهد الفترة المقبلة تكثيفًا للتعاون العسكري والدفاعي مع دول الخليج، بما في ذلك نشر أنظمة دفاع جوي متقدمة، وزيادة المناورات العسكرية المشتركة، وتعزيز برامج التسليح. ووفقًا لتقرير نشره Arab Gulf States Institute عام 2024، فإن إدارة ترامب قد تعيد إحياء "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، وهو مشروع سابق يهدف إلى توحيد دول الخليج ضمن إطار أمني مشترك لمواجهة التحديات الإيرانية، وأيضًا دمجها في تعاون مشترك للحد من النفوذ الصيني.
وغير أن نهج ترامب تجاه إيران له انعكاسات مباشرة على أمن المنطقة، لا سيما مع تصاعد التوترات في مياه الخليج، حيث تمر نحو 20% من صادرات النفط العالمية عبر مضيق هرمز. وإن أيّ تصعيد عسكري أو فرض مزيد من العقوبات قد يؤدي إلى اضطرابات في أسواق الطاقة العالمية، مما يضع المنطقة على حافة أزمة اقتصادية وأمنية غير مسبوقة. وحسب تقرير Energy Information Administration (EIA) لعام 2024، ويشير إلى أن استقرار الخليج سيظل مرهونًا بمدى قدرة واشنطن على تحقيق توازن بين سياسات الردع والاحتواء والتهدئة.
- الموقف من النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وتداعياته
تُعد سياسات ترامب السابقة تجاه القضية الفلسطينية بوابة لفهم توجهاته المستقبلية، إذ اتسمت بإجراءات مثيرة للجدل قلبت التوازن التقليدي في الصراع. ففي فترته الأولى، أطلق مبادرة "اتفاقيات أبراهام"، التي شكلت تحولًا جذريًا في العلاقات العربية الإسرائيلية، إذ نجحت في تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، مثل الإمارات والبحرين والسودان والمغرب. وهذه الاتفاقيات روجت لها إدارة ترامب بوصفها خطوة نحو تحقيق السلام، لكنها في الواقع أزاحت القضية الفلسطينية عن مركز الاهتمام الإقليمي والدولي.
مع عودته الثانية إلى البيت الأبيض، يتوقع أن يواصل ترامب توسيع هذه الاتفاقيات، من خلال السعي لضم دول عربية وإسلامية إضافية إلى دائرة التطبيع، مثل السعودية. وهذا التوجه قد يؤدي إلى مزيد من الضغط على الشعب الفلسطينية ومناصريه من الأحرار في العالم. فالإجراءات المتوقعة، مثل تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية وغزّة والقدس الشرقية، قد تؤدي إلى زيادة التوترات على الأرض هذا من ناحية، وربما تغدو معركة غزّة مسألة استنزاف لقدرات المقاومة في إطار مفاوضات فريق نتنياهو لإيجاد صيغة سياسية تكون غزّة فيها تحت حكم فلسطيني، يُلبي احتياجات تل أبيب الأمنية من ناحية أخرى.
- عودة ترامب والأثر على سوريا ولبنان: تصعيد الأزمات الداخلية والإقليمية
تحمل عودة ترامب إلى البيت الأبيض انعكاسات حاسمة على المشهد السوري واللبناني، مع توقعات بانتهاج سياسة أميركية أكثر صرامة تجاه إيران وحلفائها في الإقليم. ففي سوريا، يُعد قانون قيصر أحد أبرز أدوات الضغط التي قد تُفعل مجددًا بشكل أكثر شمولًا، خاصة إذا استمر الدعم الروسي عن الأنشطة العسكرية الإيرانية في العراق واليمن ولبنان وسوريا.
وعلى المستوى الإقليمي، قد تستخدم إدارة ترامب الملف السوري كورقة ضغط قوية في حربها الباردة مع روسيا في أوكرانيا. وفي حال التوصل إلى توافق بين واشنطن وموسكو لإنهاء الحرب الأوكرانية لصالح كييف والأوروبيين، قد يكون الثمن تعزيز النفوذ الروسي في سوريا مقابل انسحاب جزئي للقوات الأمريكية من شرق الفرات. وأما إذا استمر الصراع دون حل، فقد تشهد سوريا تصعيدًا جديدًا يشمل تكثيف الدعم لقوى المعارضة السورية، وتوسيع نطاق العقوبات الاقتصادية عبر قانون قيصر. وهذه التطورات قد تدفع إيران إلى تعزيز وجودها العسكري في سوريا، مما يزيد احتمالات الصدام المباشر، لتصبح سوريا مجددًا ساحة توتر ملتهبة تربطها أزمة أوكرانيا، والتنافس الإيراني الإسرائيلي، والنفوذ الروسي والصيني في المنطقة.
وأما في لبنان، فتواجه البلاد مرحلة حرجة في ظل توسع العمليات الإسرائيلية البرية، واغتيال قيادات حزب الله، وانهيار قوته العسكرية. فإسرائيل، المدعومة من إدارة ترامب الجديدة "صقور اليمين"، تسعى لاستغلال الوضع السياسي والاقتصادي المنهار لتحقيق مكاسب استراتيجية، متذرعة بعجز الحكومة اللبنانية والقوات الأممية عن تطبيق القرار 1701.
وفي المقابل، يجد حزب الله نفسه في موقف دفاعي معقد، نتيجة ضعف الدعم الإيراني والسوري في ظل الضربات الإسرائيلية والضغوط الأميركية المكثفة. وهذه التحديات، إلى جانب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، تهدد السلم الأهلي اللبناني، وتعزز احتمالية الانهيار الشامل. وبهذا المشهد، تبدو سوريا ولبنان في قلب لعبة دولية شديدة التعقيد، حيث تتشابك المصالح الإقليمية والدولية، مما يجعل مستقبل البلدين مرهونًا بتوازنات القوى الكبرى، واستراتيجيات الأطراف القوية والفاعلة.
- تركيا: تحديات وتداخلات استراتيجية
مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تقف تركيا أمام مجموعة معقدة من التحديات الاستراتيجية التي قد تعيد رسم استراتيجتها الدفاعية والاقتصادية في المنطقة. وعلى الرغم من العلاقة الشخصية الإيجابية التي جمعت بين ترامب وأردوغان خلال ولايته الأولى، إلا أن المصالح المتعارضة بين أنقرة وواشنطن قد تُفجر خلافات جديدة، لا سيما في الملفات الحساسة.
ولعل أبرز هذه الملفات هو الدعم الأميركي المستمر لوحدات حماية الشعب الكردية (YPG) في سوريا، والتي تعتبرها تركيا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. فإدارة ترامب السابقة أثبتت مرونة في التعامل مع هذا الملف، غير أنها لم تتخلَ عن دعم الأكراد كحليف رئيسي في محاربة تنظيم داعش. ومع عودته، من المتوقع أن يواصل ترامب هذا النهج، وهو ما قد يدفع أنقرة إلى تعزيز عملياتها العسكرية في شمالي سوريا لقطع الطريق أمام أي محاولات لإنشاء كيان سياسي وعسكري كردي مستقل.
وفي الوقت ذاته، تمثل صفقات الأسلحة الروسية، مثل منظومة "S-400"، محورًا رئيسيًا للخلاف بين الطرفين. فالولايات المتحدة الأميركية ترى في هذه الصفقات تقويضًا لنفوذ حلف الناتو، وقد فرضت عقوبات على أنقرة خلال إدارة ترامب الأولى. وعودة ترامب قد تجدد الضغوط الأميركية لإجبار تركيا على التراجع عن هذه الشراكة الدفاعية مع روسيا مقابل العودة للحديث عن تفعيل اتفاقية طائرات إف 35 الأميركية.
وعلى الصعيد الإقليمي، تجد تركيا نفسها مضطرة لإعادة تقييم علاقاتها مع الدول العربية والخليجية، في ظل سياسات ترامب التي تعزز تحالفات هذه الدول مع إسرائيل. فهذا التوجه قد يضع أنقرة أمام خيارات صعبة في سعيها للحفاظ على دورها كقوة إقليمية مؤثرة. ولكن يظل لتركيا حظوظ تقربها من سياسة أميركية أكثر جدية في إضعاف دور إيران، والاعتماد على حلفاء يكونون بدائل قوية لملء الفراغ الجيو سياسي أمام الرغبة الأميركية في التركيز على الإصلاح الاقتصادي، ومعالجة أزمة الهجرة غير الشرعية، وتعزيز التحالفات في منطقة المحيط الهادي وأوروبا.
- نحو إعادة ترتيب موازين القوى.. فرص بين التحديات
مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض بإدارة يغلب عليها طابع اليمين المتشدد، تدخل منطقة الشرق الأوسط مرحلة جديدة تتسم بتحديات معقدة، وفرص إعادة التوازن. وتحمل سياسات ترامب نُذر تصعيد إضافي للأزمات الإقليمية، بدءًا من تشديد العقوبات على إيران وصولًا إلى دعم التحركات العسكرية الإسرائيلية في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن. وهذه السياسة الأميركية الطاغية قد تعيد تشكيل خارطة التحالفات التقليدية، مما يدفع بعض الدول في المنطقة إلى البحث عن شراكات استراتيجية مع قوى صاعدة مثل روسيا والصين. وفي المقابل، قد تتجه دول أخرى لتطوير سياسات دفاعية واقتصادية مستقلة، كما هو الحال مع إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية، لتعزيز قدرتها على مواجهة التحديات، وضمان مصالحها الاستراتيجية في ظل التحولات الجديدة.