يحقّ للسوريين كافةً، وللسوريين الفاعلين في الشأن العام وللمتابعين للمشهد السياسي والمعنيين بالجدل القائم حول اللجنة الدستورية السورية التي تمّ إقرارها في مؤتمر سوتشي على قاعدة المقاربة الروسية للحل السياسي في سوريا، معرفة الحقيقة وامتلاك الأدوات المتاحة القادرة على التوصّل إليها واستنتاجها دون تصوّرات مسبقة أو توجيهات استباقية. خصوصاً بعد انقسام قوى الثورة والمعارضة ما بين رافضٍ لها على اعتبارها تنازلاً خطيراً عن حقّ الشعب السوري في انتقال سياسي جذري وجوهري وشامل، والتفافاً على إرادته في الخلاص من نظام ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وانسياقاً للتفسيرات الروسية لقرارات مجلس الأمن والقرارات الدولية، وبين مؤيّد أو متفرّج صامت على اعتبار أنه "ليس بالإمكان أفضل مما كان"، وأنه لا بدّ من "إدارة الهزيمة" ويقصدون بها "هزيمة الثورة"، بل وفي أحسن المبررات أن المشاركة في هذه اللجنة ما هو إلا إجراء تكتيكي لتوريط نظام الأسد وحلفائه بالعملية السياسية التي لطالما رفضوا الانخراط بها.
تساؤلات وأسئلة مهمة ومصيرية ومحقّة طُرحت في الآونة الأخيرة، من شأن الإجابات المنهجية الصريحة والواضحة عليها أن تساهم في بلورة موقف حاسم وضروري من مشاركة المعارضة الرسمية ممثَّلة بهيئة التفاوض السورية في أعمال اللجنة الدستورية. حيث لم تُسعف المداخلات الطيّارة من حيث مدّتها وعموميّتها، ولا البيانات بآرائها ومواقفها المتباينة في إعطاء تلك الإجابات. الأمر الذي جعل الهوة تتزايد بين الفريقين (بين المؤيد والمشارك وبين الرافض والمقاطع)، حيث أصبحت لغة التخاطب بينهما أقرب إلى تراشق اتهامات لا يمكن أن تفيد عموم السوريين في تنظيم موقفهم ليصبح ضاغطاً وموجّهاً لمن يدّعي تمثيلهم،
كيف يمكن لعموم السوريين في هذا الجو المحموم التأسيس لموقف موضوعي في قضية جوهرية لا تمسّ فقط مصير الثورة السورية بعد كل التضحيات التي قدّمها أبناؤها وبناتها، بل تمسّ أيضاً مصير الصامتين؟
وحيث المشهد الماثل أمامهم لا يعدو في غالب الأحيان المناكفات بين الفريق الرسمي المشارك والمتّهم بكونه يقدّم التنازلات تلو الأخرى إرضاءً للتوجّه الجديد للمجتمع الدولي، وبين الفريق الرافض المتّهم هو الآخر من قبل الفريق الأول وداعمي مساره من شخصيات ودول، بالجهل والشعبوية وانعدام النضج السياسي أو بالانسياق لمجموعة تتّسم بالكيدية والتنافسية بسبب فقدان دورها في العملية السياسية. الاتهام الأخير للرافضين لهذا المسار هي استراتيجية يتبعها الفريق الأول بالتلميحات والتصريحات في كل المداخلات التي يتواجه فيها مع من يجادله في صوابية وخطأ انسياقه إلى مسارٍ خطّه حلفاء نظام الأسد.
كيف يمكن لعموم السوريين في هذا الجو المحموم التأسيس لموقف موضوعي في قضية جوهرية لا تمسّ فقط مصير الثورة السورية بعد كل التضحيات التي قدّمها أبناؤها وبناتها، بل تمسّ أيضاً مصير الصامتين وحتى من جعل منهم نظام الأسد حطباً لحفاظه على منصبه..؟؟
من جهة تجتهد المعارضة الرسمية عبر إصدار البيانات وحشد المداخلات والمقالات، في دفاعها عن خوضها غمار "الالتزام بالعملية الدستورية من خلال اللجنة الدستورية المزمع تشكيلها بإشراف الأمم المتحدة" على اعتبار أن ذلك "الالتزام يأتي في إطار الانتقال السياسي الذي نصّ عليه بيان جنيف 30/6/2012"، وأن تلك اللجنة، وبحسب رأيهم، هي المدخل الوحيد المتاح اليوم لتفعيل العملية السياسية في جنيف وهدفها التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 2254..!! لا تخلو تلك البيانات من تناقضات جلية، فتارةً تطالب بالتنفيذ الدقيق لتراتبية القرار 2254، حيث يكون "البدء بتنفيذ البنود الفوق – تفاوضية، والسعي على الفور لتشكيل هيئة حكم انتقالي تشرف على تهيئة بيئة آمنة، وتشكّل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وتعيد هيكلة الجيش وأجهزة الأمن، وتبدأ مرحلة العدالة الانتقالية وتدعو لانتخابات برلمانية ثم رئاسية"، (وذلك في بيانها الصادر بتاريخ 18/9/2018، وبعكس سلوكها اليوم وانخراطها في المسار الدستوري وحده)؛ وطوراً تعتبر أن "دستور البلاد الجديد هو بوابة العبور نحو الانتقال السياسي في سوريا من نظام الاستبداد إلى دولة العدالة والحرية واللاطائفية والمواطنة المتساوية والمساءلة أمام القانون والفصل بين السلطات واستقلالها"، بل وتكتفي بالإشارة للحوار مع الأمم المتحدة في سبيل "العمل على مسار ملازم لمسار صياغة الدستور للبحث في إيجاد البيئة الآمنة والمحايدة بوصفها شرطاً أساسياً لتطبيق الدستور وتفعيله" في بيانها الصادر بتاريخ 1/8/2018. وتتهم هيئة التفاوض في متن نفس البيان بعض الجهات بالقيام بحملات تشويه مشبوهة تهدف إلى تقويض مصداقيتها.
يسارع وفد المعارضة الحالي ويتبنى تفسير المبعوث الأممي نفسه، فيتراجع بذلك عن قضايا محسومة في القرارات الدولية ويتنازل عن حقّ مكتسب واضح في متنها، هو حقّ تضحيات الثورة في انتقال سياسي يستبعد مجرمي الحرب.
ومن الجهة الأخرى تصدر البيانات من فعاليات وهيئات ثورية تعلن عن ثباتها على مطالب الثورة السورية وتحتفي بعودة الحراك الثوري والمظاهرات السلمية تحت الراية الخضراء، وتعتبر "أن الخطوة السياسية الأولى تحقيق الانتقال السياسي دون نظام الإجرام"، وأن "كتابة الدستور شأنٌ وطني سوري لا علاقة لأية دولة أو جهة أو منظمة بتحريره ولا بلجانه"، وأن "أي إجراء بهذا الصدد قبل الانتقال السياسي هو باطل وغير شرعي ولا يترتب عليه أية آثار قانونية"، وتعتبر "أية مشاركة في إنجاز ذلك الدستور أو دعمه خيانة للشعب السوري ولدماء شهداء ثورة الحرية والكرامة ومعتقليها". كما تعتبر المظاهرات الشعبية أن الهيئة التي من المفترض أن تمثّل قوى الثورة والمعارضة، إنما هي "تُسقط حقوق السوريين بالتقادم".
وتبرز بعض الآراء لخبراء قانونيين سياسيين شاركوا في المسارات التفاوضية منذ مفاوضات جنيف 2 عام 2014، عندما كان الوسيط الدولي الأخضر الإبراهيمي موفداً خاصاً للأمم المتحدة والجامعة العربية في سوريا وكان الائتلاف الوطني ممثلاً رسمياً لوفد المعارضة السورية، إلى المفاوضات التي يسّرها ستافان ديمستورا بوصفه المبعوث الخاص ومثّلت الهيئة العليا للمفاوضات السابقة وفد المعارضة فيها في أواخر العام 2015 حتى أواخر العام 2017.
يتحدث الأستاذ محمد صبرا كبير المفاوضين سابقاً عن "خطورة إلغاء التعاقب الزمني للقرار 2254 وعدم شرعية الخروج عنه، وعن الاختلاف في التفسيرات اللاحقة لقرار مجلس الأمن بين وفد المعارضة وبين ديمستورا"، ليسارع وفد المعارضة الحالي ويتبنى تفسير المبعوث الأممي نفسه، فيتراجع بذلك عن قضايا محسومة في القرارات الدولية ويتنازل عن حقّ مكتسب واضح في متنها، هو حقّ تضحيات الثورة في انتقال سياسي يستبعد مجرمي الحرب. كما يؤكد الدكتور حسام الحافظ أستاذ القانون الدولي ورئيس المكتب القانوني للهيئة العليا للمفاوضات سابقاً، كون "اللجنة الدستورية مجرّد لجنة صياغة مشتركة من المفترض أن يأتي عملها نتيجة لاتفاق سياسي واضح يهتدي بمبادئه"، وكون الموافقة على المشاركة فيها يُعدّ تنازلاً عن الموقع التفاوضي لقوى الثورة والمعارضة، بل و"تجاوزاً لقضية المفاوضات برمّتها والقفز عليها وعلى إجراءات بناء الثقة، ليصبح وفد المعارضة جزءاً من لجنة مشتركة مع نظام الأسد وبظلّ وجوده في الحكم وبدون أي تفاهمات واضحة تحدّد القواعد الإجرائية وضوابط عمل هذه اللجنة". يأتي هذا كله بعد التسليم بالتفسير والمقاربة الروسية لقرارات مجلس الأمن، ذلك التفسير الذي لا يصبّ بصالح الثورة، وصالح كل السوريين. وتبعاً لتلك الآراء فإن وفد المعارضة يتبع التوجّه الروسي في تقزيم وربما إلغاء العملية التفاوضية، هو نفسه الذي ينافح عن كونه يعتمد كل التكتيكات الممكنة للحفاظ عليها حيّة.
وعلى الرغم من كوني منحازة إلى الفريق الرافض للمسار الدستوري والمشاركة فيه، ولكنني أجد من الضروري استيضاح المشهد بأكمله عبر الدعوة إلى مناظرة سياسية وقانونية بين الطرفين، وفسح المجال لنقاش علمي حضاري يسعى وراء الحقيقة بموضوعية وتفاعلية، يترافع فيها كل طرف بحجّته ومنطقه بعيداً عن السجالات العقيمة والعمومية، وبعيداً عن الشخصنة، ليكون المحور الأساسي للنقاش: المواقف والأفكار والمسارات. من شأن تلك المناظرة أن تقدّم الإجابات عن تساؤلات بقيت تراوح مكانها، وأن تضيء حقائق مازالت خافية رغم الحاجة الماسة إليها في بناء موقف جذري من قضية مفصلية (اللجنة الدستورية) على أسس أكثر عمقاً وتفصيلاً ودقة. ليس الهدف من تلك المناظرة قياس الرأي العام تجاه أحد الفريقين، بل العمل على بلورته تجاه الموقفَين والمسارَين، وربما تجاه الحاجة إلى موقف ثالث لم يتبلور بعد، يتعدّى خندق القبول أو الرفض.
لم يعد كافياً اليوم تنظيم المظاهرات وإصدار البيانات وعقد الاجتماعات والندوات والمؤتمرات الرافضة لمسار بوتينيّ بلبوس جنيف وغطاء الأمم المتحدة للحل في سوريا.
فلم يعد كافياً اليوم تنظيم المظاهرات وإصدار البيانات وعقد الاجتماعات والندوات والمؤتمرات الرافضة لمسار بوتينيّ بلبوس جنيف وغطاء الأمم المتحدة للحل في سوريا، خصوصاً بعد أن أثبتت وقائع رفض المؤسسات الرسمية لقوى الثورة والمعارضة المشاركة في مؤتمر سوتشي سعياً لإظهار التناغم مع إرادة السوريين، أنها قادرة على ضرب كل ما سبق عرض الحائط ثم المشاركة في مخرجات سوتشي. بإمكان تلك المؤسسات المستندة إلى دعم دولي أن تتملّص ببساطة من موقف شعبي ثوري، ولو كان جذرياً ولكنه مازال يحمل صفة الآنية في التعبير عن نفسه، الأمر الذي لا بدّ أن يدفعنا إلى جعل جنوح تلك المؤسسات إلى الانفلات من الالتزام بذلك الموقف انفلاتاً مستحيلاً، وذلك عبر العمل على تنظيمه وتأطيره والحفاظ على استمراريته وتراكميته. تصبح تلك المهمّة أكثر يسراً عندما تكون أساسات هذا الموقف الشعبي الثوري أكثر متانةً مستندةً إلى الحقائق التي يمكن أن تتجلّى بوضوح أكبر من خلال تلك المناظرة السياسية والقانونية.