لا يمكن للمشروع الإيراني في جوهره أن يقود إلى مآلات تسمح باستقرار إيران ذاتها فضلاً عن استقرار البلدان العربية التي تحتلها والنطاقات المحيطة بها. فالثورة الخمينية لم تكن تحولاً تاريخياً في فكرة شطر من الشيعة حول العيش المشترك مع الآخر وحسب، إنما طريقاً بلا عودة تتباعد يوماً بعد يوم عن ذلك العيش الذي قيل إنه كان مشتركاً، واتضح أنه كان جمراً تحت الرماد لقرون من الزمن.
كيان الحرس الثوري القائم على شرعية وجود دولة إلى جانب الدولة، وسلطة بالتوازي مع السلطة، لم يكن ليستمر، حتى ليلة سقوط بغداد في العام 2003 محصوراً ضمن حدود إيران، كان قد غادر مطرحه من زمن طويل بعد أن ضاقت به الجمهورية الإيرانية، فدولة الولي الفقيه إن لم تصدّر ذلك المشروع حينئذ، كان سيلتهمها من داخلها، مهشماً المؤسسات المنمّقة التي تقول إيران إنها قامت ضد الشاه من أجل استحداثها، رئاسة وبرلمان ومجالس منتخبة، وكل ذلك يدار من كرسي الشاه الجديد، الذي كان آية الله الخميني والذي هو اليوم آية الله خامنئي.
بعد اندياح الحرس الثوري وفروعه وكتائبه مستغلاً ارتباك الأنظمة الرسمية العربية وعجزها عن مواجهة الربيع العربي ومطالبه بالديمقراطية والحياة الكريمة، اعتقدت إيران أنها وجدت الحلّ أخيراً، وبدلاً من أن تكون الدولة الموازية الإيرانية عبئاً على نظام الولي الفقيه باتت دويلات منتشرة في الإقليم العربي، وهذه الظاهرة لم تكن لتعشّش وتنمو في ظل وجود كيانات مستقرّة، فكان الخيار الإيراني هو هدم الدولة العربية واستبدال دولة الميليشيا بها، كما في حالة حزب الله والحوثي.
لم يكن لدى تلك النخب من ورقة تلعب بها سوى ”المواطنة“ التي بدت فطراً بلا جذور يقطع بحدّة مع تاريخ المشرق العربي وشعوبه وحمولته الحضارية
وبقيت القطاعات الاجتماعية في دول الربيع، المشرق منها بشكل خاص، في حيرة من أمرها، فهي تواجه غزواً قومياً بامتياز، يستهدف هويتها وحضارتها وتاريخها ويعمل ليلاً نهاراً على تغيير صورتها ولغتها وهندستها السكانية، بالقوة الغاشمة، في الوقت الذي تقول لها نخبها إن عليها أن تطلّق وبالثلاثة كل ما ورثته عن العهود الماضية، وكل ما رفعته تلك العهود من شعارات بما فيها شعار الهوية العربية باعتباره كان واحداً من روافع الاستبداد. قالت لها نخبها ذلك من دون أن تدلّها على بوصلة جديدة، ولم يكن لدى تلك النخب من ورقة تلعب بها سوى ”المواطنة“ التي بدت فطراً بلا جذور يقطع بحدّة مع تاريخ المشرق العربي وشعوبه وحمولته الحضارية. وفوق ذلك يطرح على الشعوب أن تضمن للقوميات الأخرى في المشرق أن تتحقق كلياً ومن دون قيد أو شرط، يقابله هذا كله مشاريع دينية وطائفية عابرة للحدود، تعددت وتنوّعت وفشلت في إقناع أهليها أنفسهم.
غير أن التحليل المعمّق لذلك النهج سيقضي على تلك الشعوب بالضرورة أن تطلّق مع ”العروبة“، مفاهيم مثل ”الحرية“ و“العدالة الاجتماعية" تبعاً، لأن الاستبداد استثمر فيها. وهو ما لن يستوي في أي ميزان.
الموجة القومية العربية الأولى في العصر الحديث، لم تولد وحدها، ولم يستيقظ العرب في المشرق ذات صباح ويعلنوا حاجتهم القصوى للتعبير عن وجودهم القومي، بل كان ذلك نتاج عوامل ضاغطة ولّدت تلك الدوافع وصيّرتها ضرورة لا ترفاً فكرياً، وقد تم توظيف تلك الموجة إلى أبعد حد، على أيدي عديدين ربما لم تكن مصالحهم متقاطعة، في مقدمتهم طلائع النخب العربية الرفيعة التي عاشت بدايات القرن الماضي، ورأت أنه لا حلّ للمشرق سوى بالهوية الثقافية الجامعة والتي لا يشكل الدين فيها أي حاجز بين المكونات، ومن بين من وظفوا تلك الموجة كانت الكولونيالية التي هدمت بها كيانات كبرى وقدّمت وعوداً للعرب لم تفِ بأي منها. ولم تتمكن من حُكم عرب المشرق خلال الفترة الفاصلة بين الموجة القومية العربية الأولى والثانية التي لن تبدأ إلا بعد أن يغادرنا القرن العشرون، سوى بالاحتلال المباشر المعزّز بالحديد والنار ثم بالأنظمة التي ركّبها الاستعمار بيديه.
وقد استطاع الذكاء الاجتماعي العربي العام أن يستخلص لنفسه شهيداً وأضحية يجمّع من حولها فكرته المركزية حول الهوية العربية، من خلال القضية الفلسطينية التي بقيت حاملاً قادراً وبجدارة على إبقاء جذوة الهوية العربية مشتعلة، وما تزال حتى اليوم معادلة عصية على المحو، حتى حين استعملها الاستبداد في غير نظام عربي تاجر بها وسحق شعبه بسببها، لكنه لم يرذّل القضية الفلسطينية ولم يتمكن من خدش معدنها الذي كان قد ترسّخ جيداً في الوعي العربي العام.
كانت محاكمة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وهو من هو بما يمثله من سطوة الاستبداد، محاكمة مباشرة للفكر القومي العربي ولعروبة المشرق وشعوبه، محاكمة أميركية عبر الفيديو، تخضع للرقابة ليس لأن صدام ومن معه سيقولون كلاماً لا يرغب الأميركيون بأن يسمعه العرب، بل كي تشعر الشعوب العربية أنها تحت الرقابة الوقحة، صراحة ومن دون مواربة، وعلى النقيض تماماً من التبشير الأميركي بالديمقراطية عبر غزو قدّم العراق العربي هدية إلى إيران الفارسية.
اعتقد الإيرانيون أن اللعبة العربية انتهت، فبدأ التغلغل الكبير في الجسد العربي، محطات عديدة، سلسلة الاغتيالات في بيروت العربية، اغتيال الحريري، إعدام صدام المشهدي المرسوم بعناية ضدّ الرجل وضد مناصريه وضد مشاهدي الإعدام وضدّ من نفذوه بأيديهم جميعاً.
غير أن ذلك كله كان مجرّد البداية، وتونس البعيدة التي تتنفّس العروبة دون ادعاء ودون لافتات زائفة كانت الاستجابة، فانطلق الربيع العربي الذي تلقفته الشعوب في مصر وليبيا واليمن وسوريا وغيرها، وبدأت الموجة القومية العربية الثانية.
واجه الوعي العربي خلال العقد الماضي حروباً فوق الحروب الظاهرة، ولم يكن استهداف مطالب الشعوب بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية إلا غلافاً لتلك الحروب، في حين كان ولم يزل الجامع المشترك بين كل من شنوا حروبهم على شعوب المشرق العربي هو استهداف الهوية العربية وقتل الموجة العربية الثانية.
ويتكرّر المشهد الذي ساد في ردح ماض من الزمن، حين تصاعدت الضغوط على الشخصية العربية كي تتبلور لديها مشاعر غيرة على الهوية وعلى الثقافة والإرث الحضاري واللغة والامتداد التاريخي، غير أن الظروف الموضوعية المحيطة بالعرب اليوم أكثر تكاملاً مما كانت عليه بالأمس، قبل قرن ونيف، فهناك مشاريع قومية صاعدة، وهناك تساهل عالمي مع تلك المشاريع، وشرعنة شعبية لها في بلدانها، ولو نظر العرب في المشرق في هذه اللحظة إلى ما حولهم لرأوا قوميات تحقق العديد من الإنجازات لصالح شعوبها، وسيرد الإسلاميون العرب بأن حزب العدالة والتنمية التركي ليس حزباً قومياً، لكنهم يتغافلون عن أن أكبر استناد يقوم به الرئيس أردوغان وحزبه هو تحالفهم مع حزب ”الحركة القومية“، تحالف يعطي للشعب التركي الإحساس بالأمان أن هويتهم التركية وتاريخهم وعزّتهم القومية محفوظة في برامج الحكومة المنتخبة، الأمر الذي لم يفهمه إسلاميو المشرق، لا سيما الإخوان المسلمون في مصر، فكانوا أبرز من أظهر تناقضه مع العروبة بوصفها من إرث الماضي، بالطبع معهم اليسار العربي الذي ما يزال يعيش في زمن الحرب الباردة، والليبراليون والبراغماتيون الذين يعجزون عن تحديد لون محدّد للمحتوى الذي يقدمونه للناس، فيغيرون اللون بحسب المخاطب وكلما اقتضت المصلحة إلى ما لا نهاية. ناهيك عن فلول الناصريين الذين باتوا أرامل للأنظمة القومية العربية المزيفة البائدة.
الحليف التركي لشعوب المشرق العربي لن يمانع من صعود موجة عربية جديدة تصحح خطأ المئة عام الماضية، كما يتردّد، لا سيما في ظل بزوغ مشاريع قومية انفصالية تهدّد كيانه، مثل مشروع حزب العمال الكردستاني الذي بات معضلة تركية سورية عراقية الآن، وإن كان من مستقبل للهوية الكردية في يوم من الأيام فلن يكون مشرّفاً للأكراد أن يحمله مشروع إرهابي مثل مشروع البي كي كي، إنما مشروع يقوم على احترام الآخر ويطرح فهماً جديداً للقومية بعيداً عن العرق والشرايين والخرافات الجينية وأوهام السلالات الصافية.
سيسأل سائل: وماذا عن العامل الإسرائيلي وسط هذا المشهد؟ في الواقع الحقيقي لا الإعلامي الاستعراضي، إسرائيل هي الطرف الأضعف في المعادلة اليوم، وسيكون من صالح استمرارها في الوجود، كـ ”حارة يهود“ مفتوحة مثلما كانت الحال عبر التاريخ العربي كله، لا ”غيتو“ أوروبي مغلق، محيطٌ عربي متماسك بقوة شعوبه العربية الحيّة لا بقبضة الشياطين الذين تفضلهم تل أبيب عادة.
وحده المشروع الإيراني يضغط بقوة لضرب جدار من النار حول إيران، جدار عربي يتشكّل كل يوم، وكلما أمعنت إيران في تدمير الحواضر العربية في المشرق
التيار الذي يؤمن بحرب نهاية العالم، سواء في إسرائيل أو في إيران، لن يتمكن من التغلب على الحاجة الموضوعية للشعوب إلى الحياة، فما كان ترفاً مبالغاً فيه قبل عشر سنين، صار اليوم جزءاً من النظام العالمي للفرد فقيراً كان أم غنياً، والبث المباشر بين يديه في هاتفه المحمول.
وحده المشروع الإيراني يضغط بقوة لضرب جدار من النار حول إيران، جدار عربي يتشكّل كل يوم، وكلما أمعنت إيران في تدمير الحواضر العربية في المشرق، ارتجَّ وبعنفٍ وجدانُ العرب تحت القصف والمسيّرات والحرائق والخطاب العدائي الذي يستهدف الرموز والمعتقدات التي خلقت للعرب حضوراً في التاريخ وجعلت الحضارة العربية الإسلامية واحدة من بين أبرز الحضارات البشرية عبر التاريخ ما يزال العالم يعيش في ظلال ما أنتجته.
الآن تولد هذه الموجة القومية العربية بعيداً عن رحم الاستبداد، وبعيداً عن تنظير الانتهازيين الذين تمسّحوا بالعروبة لمصالحهم الرخيصة، تولد من بين الناس للناس، هويتهم ومستقبلهم وخيارهم الوحيد.