عندما دلّني أصدقائي على "شارع العرب" في برلين قصدته دون حماسٍ كبير كي أشتري سندويشة شاورما سوريّة لا أكثر. لم أكن أشتهي ما هو فوق ذلك، فقد غيّرت المنافي أذواقنا وامتزجت تفضيلات ما نأكل وما نشرب بين ما هو تركي وأميركي وفرنسي؛ بالإضافة لما رسخ لدينا من ماضينا في سوريا على بعده زمنياً وسيكولوجياً.
لفت نظري في مطعم الشاورما السوري في شارع العرب تبدّل هيئات السوريين. فقد كانت تلك أول مرة منذ سنوات أقابل أعداداً كبيرة من السوريين في مكانٍ واحد. رأيت وجوهاً متعبة عليها غبار اللجوء، وفي سيمائها وعثاء المراكب، وأهوال الأمواج، يلفّها خوفٌ أبديّ من حرس الحدود، ويضنيها مسيرٌ طويل على الأقدام في غابات أوروبا المعتمة والباردة. أم لعلّي أتوّهم ليس إلّا؟ فالزبائن يأكلون سعداء كالأطفال، وما أراه قد لا يتعدى أن يكون من أثر الهموم اليومية التي يحملها هؤلاء اللاجئون في حياتهم الجديدة. وقد تكون الوجوه فيها قلقٌ عابر فقط توجّساً من وصول أخبارٍ غير سارّة من الأهل الذين تُركوا وحيدين ومعزولين هناك في الوطن، يقاسون تبعات الحرب وحدهم.
وصل السوريون إلى ألمانيا في موجتهم الكبرى عام ٢٠١٥. ورحّبت بهم "ماما ميركل" بكلّ إنسانيةٍ ومحبّة. أما أنا الذي اخترت المنفى الفرنسيّ فقد جئت برلين متأخراً قبل أسبوعين فقط باحثاً عمّا ضنّت به عليّ باريس. وبماذا ضنّت باريس؟ (أسأل نفسي بعد أن صرت هنا) وأجدني أجيب نفسي بالقول: "وهل حقّاً يعرف اللاجئون عمّا يبحثون؟" لقد قال لي أحد الأصدقاء السوريين في برلين عندما هاتفته معلناً قدومي إلى المدينة: "الله يرزقك الحج والناس راجعة!" لم أفهم قصده تماماً. وحتى عندما التقينا، لم أشأ أن أسأله. صار لديّ خوفٌ من الجواب أيّاً كان، فأنا هنا بحثاً عن المفاجأة لا الصدمة، وقد قدّم لي شارع العرب مفاجأةً صغيرة لكن مبهجةً جداً.
كنت محرَجاً من الباعة السوريين، وشعرت بالذنب على نحوٍ هزليّ كما لو أني أخون وطني أو ثقافتي، لكن "الشنكليش" أنقذني
فبعد تناول الشاورما في المطعم الشاميّ دخلت سوبر ماركت سوري من باب الفضول، ووجدتني أتأمل الرفوف المليئة بالمواد الغذائية السورية دون أن تتملكني رغبة بشراء أي شيء. وعندما أوشكت على الخروج خالي اليدين، كنت محرَجاً من الباعة السوريين، وشعرت بالذنب على نحوٍ هزليّ كما لو أني أخون وطني أو ثقافتي، لكن "الشنكليش" أنقذني.
رأيتها هناك في البرّاد قرب مخرج السوبر ماركت. نعم إنها كرات شنكليش لم أر مثلها منذ عقدين. والشنكليش هو جبنة سورية ولبنانية تشبه جنبة Blue الفرنسية. فهي تُصنع من اللبن المسحوب الدسم والمخثّر بالحرارة، ثمّ تملّح ويتم تتبيلها بالزعتر البري والفلفل الحار وحبّة البركة، ثم تترك لتجفّ في أشعة الشمس، قبل أن تُخزّن في آنية مغلقة وتترك لتتعفّن في أماكن معتمة.
نظرَتْ إليّ كرات الشنكليش في شارع العرب معاتبةً وهي تذكّرني بيدي أمي الممتلئتين واللتين طالما أعياهما التعب وهما تتبّلان الشنكليش وتكوّرانه ثم تخزنانه مع الزيتون والمكدوس في بيت المؤونة. وهمس شنكليش برلين في أذني ليذكّرني برجلٍ من ضيعتنا اسمه عصام غدا مضرب المثل من شدة حبّه للشنكليش. فقد نظر عصامٌ هذا في أحد الأيام إلى التلّ الأثري الذي تقبع عليه ضيعتنا "قلعة المضيق" وقال لمن حوله: "ليت قلعة المضيق هذه كرة شنكليش كبرى!" ومن يومها صار يُلقب كلّ من يبالغ في حبّ الشنكليش في ضيعتنا بلقب "عصام".
ها أنا يا أمي أصير "عصام" في برلين!
يوماً ما عندما يحلّ الشنكليش وما شابهه من أكلات السوريين على أطباق الألمان، سوف تدرك ألمانيا أنها لم تكسب باستقبالهم اقتصادياً وديمغرافياً فحسب، بل وثقافياً أيضاً
تمكنت في أيامٍ معدودة من أن أكوّن صورةً واضحةً عن وضع السوريين في برلين. هناك حضور قوي للسوريين والعرب هنا: المطاعم والمقاهي والأسواق والمكاتب الحكومية والشركات الخاصّة والفعاليات الثقافية. بل ورأيت مساجد بقبابٍ ومآذن، وهي مشاهد غابت عنّي لسنواتٍ طويلة خلال إقامتي في فرنسا، حيث من الصعوبة تمييز المسجد هناك عن الأبنية الأخرى، وخصوصاً في المدن الصغيرة. وباختصار فقد وجدت أن المزاج الإيجابي لبرلين يغلب على المزاج السلبي لنفسية اللاجئ، كما أن الطابع العمليّ الذي يطبع نمط الحياة الألمانية يترك أثراً واضحاً على السوريين، فمعظمهم ناجحون ولديهم أشغال ومداخيل ولا يشكلون عبئاً على ألمانيا. والحقّ أنهم مكسب اقتصادي وديمغرافي كبير في بلدٍ هرِم سكانياً لكنه مجدّ وطَموح، وذو تاريخ صناعيّ عريق. ويوماً ما عندما يحلّ الشنكليش وما شابهه من أكلات السوريين على أطباق الألمان، سوف تدرك ألمانيا أنها لم تكسب باستقبالهم اقتصادياً وديمغرافياً فحسب، بل وثقافياً أيضاً.