قمريا، أكملت انتفاضة السويداء عامها الأول، وبعد أيام قليلة سترتفع شمسها على عام من التظاهر السلمي اليومي، الذي يستحق توثيقه في كتاب غينيس للأرقام القياسية كأطول فترة تظاهر سلمي بلا انقطاع أو توقف. فرغم عطالة الملف السوري دوليًا وإقليميًا، وكل المعيقات والمصاعب المعاشية والاقتصادية التي يعاني منها الداخل السوري، ورغم حجم الهجمة الأمنية من إثارة الشائعات التي طالت غالبية شخصيات الانتفاضة، خاصة ثائراتها وبعض الفاعلين فيها، والتحريض على العنف وارتكاب الجرائم، وتشغيل جيش إلكتروني لافتعال اقتتال داخلي بين أبنائها؛ إلا أن السويداء تتحصن بعقلانيتها وحكمتها في التعامل مع أحداثها، مصرة على السلمية وعدم الانجرار للعنف، ومثابرة على تظاهراتها اليومية لتحقيق أهدافها في الحرية والكرامة، ورايتها التغيير السياسي والخلاص من الاستبداد وقوى التطرف والإرهاب، والوصول لاستحقاق دولة الحق والقانون والمواطنة لكل السوريين.
المعيقات والصعوبات:
تعاني السويداء من هجرة شبابها الواسعة والملاحقات الأمنية التي تطول البقية منهم، والوضع الاقتصادي المتدهور، خاصة وأنها قليلة العدد سكانيًا بالأساس. كما تعاني من تهميش اقتصادي وسياسي منذ عقود في ظل حكم السلطة القائمة، ومستبعدة من المشاريع التنموية من مؤتمر المانحين الدوليين في بروكسل بحجة أنها واقعة تحت سيطرة النظام. السويداء لا تخضع لسلطة النظام ولا لأي سلطة أمر واقع أو قوى انفصالية أو إرهابية، ولكنها في ذات الوقت حققت معادلة توازن القوة بحكم خصائصها الذاتية. فقواها الأهلية رفضت وترفض الانجرار للعنف والخوض في الدم والمقتلة السورية، وعملت على الحماية المحلية من أي اعتداء خارجي.
فقد تعرضت مرارًا لهجمات متطرفة كان أبرزها هجمة داعش 2018، والتي صدها الأهالي وحدهم، وكل الأدلة تشير لدور الأجهزة الأمنية وقيادات الجيش السوري في افتعالها. كما أنها حاربت وتحارب مروجي ومهربي المخدرات المحميين والمدعومين من الأجهزة الأمنية، كما أثبتتها الوثائق والأحداث. هذا ما يجعل الحملة الأمنية تزداد شراسة عليها، خاصة عبر الإشاعات وزيادة تعزيز الميليشيات التابعة للأجهزة الأمنية، وإحداث بعض الاغتيالات الأمنية التي تبث الترهيب في نفوس المتظاهرين، وتحاول شق الصفوف وافتعال اقتتال محلي بين قواها المحلية، مما يسهل مهمة النظام لإنهاء حراكها السلمي.
معيقات وعطالة الحركة في السويداء من تحقيق نتائجها المباشرة تتمثل بشكل أساسي في:
1. الوضع الاقتصادي والمعاشي المتردي العمومي، الذي يؤثر بشكل واضح على حجم ونسبة الحراك في ساحات التظاهر.
2. الوضع الأمني المتسلل لداخل الحراك بغية تشتيته وترهيبه.
3. عطالة الملف السوري وتعقد المشهد الإقليمي، وانعكاساته على سوريا عمومًا، وعلى السويداء خصوصًا، مما يرجح تسلل الملل والتعب.
رغم كل ما ذُكر، تصر السويداء على استمراريتها السلمية، منتظرة تجاوب السوريين معها، وترقب بدقة المتغيرات الإقليمية والدولية، مركزة على ثوابتها الوطنية من دون الانجرار للعنف أو خلف المعادلات الإقليمية والدولية في محيطها.
رسالة السويداء ومحدداتها السياسية:
السويداء محافظة سورية معروفة بأن غالبية سكانها من الأقليات التي ادعى النظام زورًا حمايتها لتبرير حملته الأمنية العسكرية على المجتمع السوري بكامله بحجة الإرهاب. السويداء ليست استثناءً سوريًا، فالنظام يتهمها بالانفصال ويهددها بالاقتحام العسكري اليوم. أبناؤها سوريون مدنيون يميزون بين السلطة ونظام حكمها القمعي وبين الدولة ومؤسساتها، ويمارسون حياتيًا وتاريخيًا الفصل بين الدين والسياسة وإدارة المجتمع، كما عبّر عنها الشيخ حكمت الهجري، رئيس طائفتها الروحية. السويداء حتى اليوم تقف مع كل السوريين على ثوابتها السياسية المعلنة من ساحات كرامتها:
1.أحقية التظاهر السلمي كأساس للتغيير السياسي، واستبعاد كل المعادلات العنفية التي يحاول النظام وأجهزته سوق السويداء لها كما فعل في بقية أرجاء سوريا.
2. وحدة التراب والشعب والهوية الوطنية، ورفض المشاريع الانفصالية.
3. تفعيل الحل السياسي بمرجعية قرار مجلس الأمن 2254/2015، وبيان جنيف 1/2012، والقرارات الدولية ذات الصلة، والدخول الفوري في المرحلة الانتقالية وتحقيق التغيير السياسي الذي يفضي للوصول لدولة الحق والقانون والمواطنة، دولة لكل السوريين، يحدد دستورها ونظام حكمها السياسي والإداري هيئة تأسيسية منتخبة من كل السوريين في المرحلة الانتقالية.
4. الإفراج الفوري عن المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين قسريًا، وإلغاء جميع الأحكام التعسفية التي طالت كل شرائح المجتمع السوري، وتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة كل من تلطخت أيديهم في دماء السوريين.
5. خروج كل القوات الأجنبية والميليشيات الطائفية والمتطرفة، وعودة الأمن والأمان لجميع الأراضي السورية.
الحل الجذري السوري والدخول في مرحلة انتقالية سيحقق الاستقرار والسلام والأمان للسوريين، وسينعكس بشكل فعال على دول المنطقة والمحيط العربي، ويمنع بقاء السويداء وسوريا مزرعة لتجارة وتهريب المخدرات وتمدد الميليشيات الطائفية الإيرانية أو المتطرفة في الجهة الأخرى.
أما إذا استمر التطبيع مع سلطة النظام القائم وعدم الدخول في المرحلة الانتقالية، ستبقى سوريا محطة للنزاعات الدولية والإقليمية متعددة الجهات، وستظل السويداء ممراً لتجارة المخدرات لدول الخليج العربي والعالم، وسيبقى شبابها عرضة للاعتقال والملاحقات الأمنية بتهم متعددة، وسيستمر الوضع الاقتصادي في التدهور، وستظل الحريات والتعليم في تدهور مستمر، وسيبقى التغيير الديموغرافي وهجرة السوريين بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية عنوانًا لكارثة إنسانية كبرى في القرن الواحد والعشرين.
رسالة السويداء من ساحات الكرامة وتظاهراتها الماراثونية اليومية هي رسالة سلام وتحقيق الأمان لكل السوريين دون تمييز، سواء كان عرقيًا أو ثقافيًا أو دينيًا. إنها رسالة للأمم المتحدة ودول العالم المتمدن، ورسالة للقيم الإنسانية ومواثيق حقوق الإنسان والأمم المتحدة، ولكل الباحثين عن السلام والأمان والعدالة في العالم العربي والعالم عموماً.
هذا السلام سيبدأ بتحقيق الانتقال والتغيير السياسي على أرضية السلام والتظاهر السلمي، وإيقاف المقتلة السورية والانتصار للقيم المدنية العصرية. تثبت السويداء بسلميتها ومدنية حراكها الديمقراطي أنها تمثل الوجه الحضاري لأكثر شعوب العالم تحضرًا، حيث لم تشهد أي أعمال عنف أو تخريب من قبل المتظاهرين، ويمكنها أن تكون عنوانًا للحل السياسي في سوريا إذا ما توافرت النوايا العربية، خاصة من العمق العربي الخليجي، ودول العالم الراعية للحل السوري، للعمل على إيقاف المقتلة السورية وإنهاء معضلتها الدولية والعنفية. المقتلة التي راح ضحيتها مليون سوري وهُجّر 14 مليون منهم، نحذر من استمرارها.
يروى أنه في قديم الزمان، كانت النساء تحضرن ماء الشرب من النبع بالجرار على أكتافهن. إحداهن ثقبت جرتها وتركتها ترشح القليل من الماء طوال طريق عودتها. عندما عاتبها أهل بيتها ورفيقاتها، قالت: "ما ترشحه جرتي سترون نتيجته قريبًا". بعد حين بات طريق بيتها مخضرًا، وتنبّتت الأزهار على طوله. المغزى هنا هو أننا كسوريين، يجب أن نتطلع إلى تحقيق شراكة سياسية سورية شاملة، تحقق التوافق بين جميع اختلافاتنا العرقية والدينية والسياسية والفكرية. هذا الطريق سيزهر بالحرية إذا أردنا ذلك، مع النية والتعقل في التخلص من الأنانية السياسية والسعي لصالح محليتنا وهيئاتنا فقط. هذا ما يؤهلنا مرة أخرى لأن ينظر لنا العرب ودول العالم أننا نستحق العيش في دولة، وليس في ظل نظام الاستبداد القائم. فهل تشرق شمسنا قريباً؟