رفضت تل أبيب 4 محاولات تهدئة وتوسط تركي في الأشهر الأخيرة. الأولى كانت في مطلع تشرين الأول/أكتوبر المنصرم عبر عرقلة عرض الوساطة التركية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ثم الوقوف في وجه خطة الدول الضامنة التركية وإرسال قوات فصل بين الطرفين. وبعدها الحؤول دون تفعيل مبادرة تعاون إقليمي للتهدئة طرحتها أنقرة بالتنسيق مع عواصم عربية وغربية، وآخرها المجاهرة في رفع البطاقة الحمراء بوجه مشاركة الطائرات التركية في إيصال المساعدات الإنسانية جوا إلى سواحل غزة بالتنسيق مع الجانب الأردني.
قبل 5 أيام من انفجار الوضع في قطاع غزة في مطلع شهر تشرين الأول المنصرم، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يبحثان في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة، فرص التعاون والتنسيق في ملفات ثنائية وإقليمية يتقدمها موضوع التحضير لزيارة نتنياهو لتركيا وزيارة مماثلة يقوم بها أردوغان لإسرائيل.
أنقرة وتل أبيب كانا يناقشان أيضاً سبل تجاوز قطيعة استغرقت عقداً من الزمن بدأت عام 2010 وتقرر تجميدها في أعقاب زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في آذار/مارس 2022 لتركيا. وكل ذلك يتقدم تحت تأثير ضغوطات ومتطلبات إقليمية جديدة يواكبها خلط أوراق ورسم خرائط أمنية وسياسية وتجارية متعددة الأهداف والجوانب.
أعلنت وزارة التجارة التركية قبل أيام تقييد تصدير 54 منتجاً إلى إسرائيل وأن القيود على الصادرات إلى إسرائيل ستظل سارية حتى تعلن تل أبيب وقفا فوريا لإطلاق النار بقطاع غزة والسماح بوصول المساعدات الكافية والدائمة للفلسطينيين المحاصرين هناك. بعد ذلك بساعات أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده ستواصل دعم الشعب الفلسطيني حتى تتوقف إراقة الدماء في غزة، وتقام دولة فلسطينية على أراضي عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. الرد الإسرائيلي جاء على لسان وزير الخارجية يسرائيل كاتس الذي قال إن "الرئيس التركي يضحي بالمصالح الاقتصادية للشعب التركي من أجل دعم حماس. وأن إسرائيل سترد على ما وصفها بالخطوة التركية أحادية الجانب، وأن بلاده ستتوجه إلى الكونغرس الأميركي، لفحص انتهاك قوانين المقاطعة وإمكانية فرض عقوبات على تركيا بناء على ذلك".
الصبر التركي الاستراتيجي حيال إسرائيل تراجع قبل أسابيع وبدأ الحديث عن مجازر وجرائم حرب وحملات تطهير عرقي وأساليب نازية تطبق ضد المدنيين في قطاع غزة، وصولاً إلى قرار تفعيل خطط المقاطعة التجارية التدريجية مع إسرائيل.
ما هي الأسباب التي دفعت أنقرة للذهاب وراء خطوة من هذا النوع بعد مضي 6 أشهر على العدوان الإسرائيلي ضد قطاع غزة؟ وكيف ستكون ارتداداتها الثنائية والإقليمية على مصالح البلدين؟
من موقف تركي رسمي يدعو كل الأطراف للاعتدال وعدم التصعيد والقيام بأعمال غير محسوبة في مطلع تشرين الأول المنصرم، إلى خطوة عرقلة مذكرة المعارضة التركية في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر لطرح موضوع العلاقات التركية الإسرائيلية أمام البرلمان، والتردد في التعامل مع دعوات إطلاق خطوات قطع العلاقات التجارية بهدف تبني سياسة تقود إلى التهدئة والحلحلة. الصبر التركي الاستراتيجي حيال إسرائيل تراجع قبل أسابيع وبدأ الحديث عن مجازر وجرائم حرب وحملات تطهير عرقي وأساليب نازية تطبق ضد المدنيين في قطاع غزة. ثم الوصول إلى قرار تفعيل خطط المقاطعة التجارية التدريجية مع إسرائيل.
سيجمد التوتر الأخير بين البلدين كل الجهود الدبلوماسية والسياسية التي بذلت باتجاه التطبيع وإعادة العلاقات الثنائية إلى ما كانت عليه قبل سنوات. لكن ارتدادات التصعيد لن تبقى محصورة في الملفات التجارية، وستطول حتما الخطط والمشاريع الاستراتيجية بطابع إقليمي بينها نقل الغاز الإسرائيلي عبر المياه التركية إلى أوروبا وهدف ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وإسرائيل وتراجع فرص التنسيق والتعاون في مشاريع الممرات التجارية العابرة للحدود بين آسيا وأوروبا، إلى جانب ملف آخر يطول علاقات تركيا وإسرائيل مع الجانب الإيراني في جنوب القوقاز وهو ممر زنغزور الاستراتيجي بين إقليم نهشفان وأذربيجان والذي يمر عبر الأراضي الأرمينية وعلى مقربة من الحدود الإيرانية.
قد يكون للخطوة التركية الأخيرة أسبابها السياسية الداخلية بعد التصعيد الحزبي والشعبي في صفوف قوى المعارضة التركية ودعوة الحكم للتصعيد أكثر فأكثر ضد إسرائيل، خصوصا لموقف حزب "الشعب الجمهوري" اليساري العلماني المعارض الداعم باستمرار لسياسة المصالحة والتطبيع مع إسرائيل، لكنه هذه المرة هو الداعي لمقاطعة تجارية فورية وشاملة مع إسرائيل بسبب ممارساتها في غزة، قد يكون لكل ذلك تأثيره على قرار الرئيس التركي الأخير. لكن احتمالات حدوث الانفجار الإقليمي الأوسع وصعوبة ضبطه وتضييق الخناق عليه هو ما دفع أنقرة للذهاب وراء الإقدام على خطوة من هذا النوع.
تقول نظرية المؤامرة إن أكثر من لاعب محلي وإقليمي سقط في مصيدة السابع من تشرين الأول على مدخل قطاع غزة المحتل لأن ما جرى قلب المعادلات والتوازنات لصالح أطراف على حساب أطراف أخرى. نظرية أخرى ترى أن ما جرى سيفتح الطريق أمام تسوية سياسية عادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي لأنها الفرصة الوحيدة التي تخرج تل أبيب من ورطتها السياسية والقانونية والأخلاقية في مواجهة المجتمع الدولي. حسم تركيا لموقفها حيال السيناريوهين هو الذي دفعها للتخلي عن الدبلوماسية الهادئة بعد انفجار الوضع قبل 6 أشهر، والتصعيد المبرمج والتدريجي مع تل أبيب بسبب تمسكها باعتداءاتها الوحشية على الشعب الفلسطيني في القطاع. حتما لنتائج الانتخابات المحلية الأخيرة تأثيرها على تسريع تفعيل خطوة من هذا النوع. لكن تبدل الأجواء الإقليمية والدولية ومواقف المنظمات الحقوقية وقرارات مجلس الأمن الدولي بين أسباب تشجيع أنقرة لاتخاذ مثل هذا القرار، ومن دون إهمال التحول الحاصل في سياسات ومواقف العديد من العواصم الغربية حيال تل أبيب وممارساتها في غزة.
هدف أنقرة من خلال التصعيد الأخير ضد تل أبيب هو تنبيه واشنطن لمخاطر ما يجري إقليميا واحتمالات تحول ذلك إلى انفجار إقليمي تصعب محاصرته.
ربطت أنقرة بين قرار وقف تصدير العشرات من منتجات المواد الخام الرئيسية إلى إسرائيل وبين وقف تل أبيب لعدوانها على قطاع غزة. الرد الإسرائيلي جاء حتى الآن بعكس ما تريده تركيا. تتحرك تل أبيب صوب المعاملة بالمثل ووقف تصدير بعض المنتجات الإسرائيلية لتركيا ودعوة الشركاء والحلفاء في الغرب للانضمام إلى قرار مقاطعة البضائع التركية تضامنا مع تل أبيب ولإجبار أنقرة على التراجع عن قراراتها الأخيرة. الطرف الذي يقلقه التوتر والتصعيد الأخير على خط أنقرة – تل أبيب هو واشنطن شريك الطرفين، والتي تحركت على الفور عبر اتصالات سياسية ومكثفة لمنع تفاقم الوضع أكثر من ذلك ووسط حاجتها لأنقرة وتل أبيب معا في مواجهة سيناريوهات إقليمية سوداوية تناقش في هذه الآونة.
هدف أنقرة من خلال التصعيد الأخير ضد تل أبيب هو تنبيه واشنطن لمخاطر ما يجري إقليميا واحتمالات تحول ذلك إلى انفجار إقليمي تصعب محاصرته. لذلك فالأنظار التركية مشدودة نحو الإدارة الأميركية وما ستفعله لناحية الضغط على تل أبيب للتراجع عن سياستها الحالية. أميركا هي إذا المدعوة لبذل الجهد الإضافي للحؤول دون تفاقم التوتر في العلاقات التركية الإسرائيلية، لأنها من بين أبرز المتضررين من هذا التصعيد ولأن المسألة تعني تضعضعا في صفوف حلفائها الإقليميين أولا وتعريض حساباتها ومصالحها الإقليمية عبر شريكين وحليفين أساسيين لها في الإقليم للخطر ثانيا. وتقديم خدمة مجانية لإيران وروسيا وسط الأجواء المتلبدة والحذرة بعد إعلان طهران أنها سترد على استهداف سفارتها في دمشق من قبل إسرائيل ثالثا.
لم أكن أعرف أنه رغم كل الشحن والتعبئة والتباعد السياسي والأمني في العلاقات الأميركية الصينية تجاوزت الواردات الأميركية من الصين في العام 2022 رقم 537 مليار دولار، وأن صادرات أميركا للصين وصلت إلى 160 مليار دولار في العام نفسه. مصالح الدول تسير وفق حسابات ومسارات استراتيجية تتم مراجعتها عند تعارضها مع مبادئ وأسس أخلاقية وإنسانية وقواعد قانونية وهذا ما حسم موقف أنقرة رغم ارتدادات كل ذلك على حساباتها.