تبرز تركيا في الآونة الأخيرة على جبهات متعددة في مجالات مختلفة بقوة وبما يتوافق مع سياساتها ومصالحها الإقليمية. فعلى سبيل المثال هناك الجبهة الأقرب ضد روسيا على الأراضي السورية، وكذلك في كل من ليبيا وكاراباخ وأوكرانيا. إضافة إلى نقاط النزاع حول الملف السوري مع الولايات المتحدة الأميركية. على أن تركيا تنتهج استراتيجيات متقاربة بشكل لافت حيال تعاطيها مع بعض الدول وبعض الأطراف الفاعلة غير الحكومية. فلا تنحصر مجابهة كل من إيران ومنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية في نقاط التماس فحسب، بل تعمل تركيا على بناء شبكتي تحالف منفصلتين في ذات السياق. فبينما تشكل تركيا بالفعل جزءا من شبكة تحالف غير رسمية ضد حزب العمال الكردستاني تضم أتراكا وعربا وأكرادا؛ تعمل تركيا على بناء شبكة تحالف مماثلة ضد إيران تضم إلى جانب العرب والأتراك الطرف الإسرائيلي. ويمكن لنا القول إن الشبكة الأخيرة قد أبصرت النور مؤخرا.
تحظى تركيا بموقع تتفاوت أهميته عالميا وشرق أوسطيا، فموقعها وقوتها وقدراتها قد تبدو متوسطة على مستوى دولة، إلا أنها على المستوى العالمي تتمتع بالحقوق الدولية من حيث الحراك والتدخل الدولي. هذا التكوين في الدولة التركية يمنحها إمكانات وامتيازات خاصة من ناحية، ومن ناحية أخرى يخولها الاضطلاع بأدوار تفوق مساحتها الجغرافية.
الوجود العسكري التركي بمفرده في ساحة القتال ضد الإرهابيين هو فعل مجانب للصواب وإنه من الضروري العمل مع الأكراد ضد حزب العمال الكردستاني
يمكننا بداية أن نستذكر شبكات التحالف ضد الإرهاب والتي لطالما كانت تركيا جزءا منها. ففي الفترة التي بدأت بحكم رئيس الوزراء السابق "تورغوت أوزال" تم التنبه إلى أن الوجود العسكري التركي بمفرده في ساحة القتال ضد الإرهابيين هو فعل مجانب للصواب وأنه من الضروري العمل مع الأكراد ضد حزب العمال الكردستاني. وفي هذا السياق فقد حظي كل من رئيس العراق السابق جلال طالباني ورئيس إقليم كردستان السابق مسعود بارزاني بدعم من تركيا شمل سفر هذه الشخصيات عبر عواصم العالم بجواز سفر تركي. وكان من ثمار هذا التعاون؛ العمليات المشتركة التي نفذتها القوات التركية وقوات البيشمركة الكردية ضد حزب العمال الكردستاني. والتي تكبدت قوات البيشمركة إثرها مئات الضحايا. على أن التغييرات التي شهدتها الحكومة التركية لاحقا أدت إلى تراجع في وتيرة العمليات وخلقت نوعا من الضبابية حيالها..
على أننا نرى أن تركيا قد أعادت تفعيل هذا التعاون في الآونة الأخيرة، الأمر الذي يتجلى في الدعم الذي تقدمه البيشمركة للقوات التركية في عملياتها ضد حزب العمال الكردستاني شمال العراق. ففي حين أننا نشهد تقدما للجيش التركي في مناطق الشمال، نلاحظ أن قوات البيشمركة تقوم بقطع منافذ التراجع والإمداد على حزب العمال الكردستاني من الجنوب. إضافة إلى حراكها من الجنوب إلى الشمال في محاولات لدخول مناطق سيطرة حزب العمال الكردستاني. وإلى جانب الدعم المقدم من قوات البيشمركة، تقدم حكومة إقليم كردستان العراق الدعم اللوجستي والاستخباراتي لتركيا. في الواقع إن مشاركة بيشمركة "روج آفا" في الخطوات التي اتخذتها الإدارة الكردية ضد مناطق حزب العمال الكردستاني يحمل أهمية مختلفة. ذلك أن أفراد هذا التنظيم هم سوريون قام الفرع القُطري للحزب في سوريا بإقصائهم ونفيهم. وفي نفس الوقت لا يستطيع هؤلاء الأشخاص العودة إلى سوريا بسبب الجرائم الشنيعة التي قام بها الحزب ضد الأكراد في سوريا. الأمر الذي يجعل مكونات هذا التنظيم عناصر موثوقة متل قبل الإدارة التركية للقتال ضد حزب العمال الكردستاني. خاصة وأن استشهاد عناصر من بيشمركة "روج آفا" يظهر أنهم قد لعبوا دورا مهما في الهجمات التي نفذها حزب العمال الكردستاني ضد التنظيم.
ولا تقتصر تركيا على التحالف مع حكومة إقليم شمال العراق فحسب، بل تعمل على التنسيق مع الأكراد في تركيا ليلعبوا دورا كحماة للثغور. حماة الثغور هؤلاء هم أكراد محليون تدعمهم تركيا ويكون تحركهم العسكري بالتنسيق معها، في حين تكون تبعيتهم الرسمية لقوات الدرك التركي. يعتبر هذا المكون عنصرا هاما يشارك بفاعلية في جميع عمليات الجيش التركي، كما يعتبرون أعداء شرسين لحزب العمال الكردستاني.
وبالحديث عن التحالفات التي قامت بها تركيا في سوريا، فقد قامت تركيا بالتنسيق مع الجيش الوطني السوري التابع للحكومة السورية المؤقتة ضد وحدات حماية الشعب "YPG" (فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا). كما قد شكلت تركيا تحالفات مع المكونات العربية والكردية والتركمانية في الجيش الوطني السوري. وقامت بالتعاون والتنسيق مع الجيش الوطني السوري بعمليتي غصن الزيتون ونبع السلام ضد وحدات حماية الشعب. وقد شهدت هذه العمليات قتال السوريين والأتراك جنبا إلى جنب حتى تحرير قسم من أراضي الشمال السوري من وحدات حماية الشعب "YPG".
وعلى الرغم من عدم وجود ارتباط مباشر بين حلفاء تركيا في كل من سوريا والعراق، إلا أن هناك تحالفا طبيعيا بين الأكراد والأتراك والعرب أيضا ضد حزب العمال الكردستاني. ويمكن أن نضيف هنا أن وجود هذه التحالفات شكل دعما لتركيا في حربها لمكافحة الإرهاب على الحدود فيما قد يشكل غيابها تهديدا لقدرة تركيا في العمل على مكافحة الإرهاب على الشريط الحدودي للبلاد.
وبالبحث حول التحالفات التركية ضد إيران، نجد أن شبكة التحالفات التي أنشأتها تركيا ضد إيران تشابه تلك التي أنشأتها ضد حزب العمال الكردستاني من حيث عدم تعيين اسم للتحالف أو حتى وجود علاقات بين أطرافه. وتبرز هنا القاعدة الذهبية في الشرق الأوسط حيث لا يمكن أن تجتمع تركيا وإيران في منطقة واحدة. إذ حيث تحل إيران لا يمكن أن تجد تركيا والعكس بالعكس. إن تركيا وإيران مع أقدم حدود شهدت تغييرات عبر التاريخ لطالما كانتا مثل الزيت والماء لا يلبثان أن ينفصلا.
وبالنظر إلى نتائج الانتخابات الأميركية التي أفرزت الرئيس الأميركي "جو بايدن" وإلى التغييرات التي يشهدها سوق الطاقة العالمي فإنه من المنتظر أن تنتهج إيران سياسات أكثر عدائية تجاه الشرق الأوسط. وفي ذات السياق تعطي هجمات ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران على مصافي النفط في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية فكرة عن مستقبل المنطقة. فيما تعتبر محاولات إيران اغتيال المواطنين الإسرائيليين في تركيا مؤشرا خطيرا..
وفي إطار حربها مع إيران فقد اعتمدت إسرائيل ودول الخليج منذ البداية على الولايات المتحدة الأميركية، على أن رغبة الولايات المتحدة في التركيز على المواجهة مع الصين وتحويل ثقل قوتها عن الشرق الاوسط باتجاه آسيا تدريجيا بات يخلق مخاوف جدية لدول المنطقة التي تخشى أنها لن تتمكن من مواجهة العدو الإيراني في حال انقطع الدعم الخارجي عنها.
بالرغم من امتلاك كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ميزانيات ضخمة لأنظمة الأسلحة المتطورة، إلا أن العملية العسكرية التي تضطلع بها الدولتين في اليمن أبرزت إخفاقا عسكرا جديدا لكل من الدولتين. ومن ناحية أخرى لا يمكن أن نتجاهل أن إسرائيل تمتلك أكبر منظومة جوية في الشرق الأوسط والتي تمكنها من ضرب إيران في مواقع مختلفة بل قد قامت بالفعل بتوجيه ضربات جوية لقواعد إيران على الأراضي السورية. ولكنها وكما تبين في الآونة الأخيرة من حربها في غزة ولبنان لا تمتلك القدرة على التوغل والبقاء في أي من مواقع أعدائها في الشرق الأوسط.
على الجهة الأخرى تبرز تركيا كقوة وحيدة استطاعت أن تحقق نجاحا عسكريا في مواجهة إيران وتوقف تمددها في المنطقة. حيث وجهت القوات التركية بالتنسيق مع حلفائها في الجيش الوطني السوري ضربات قوية لإيران على الأراضي السورية. وبفضل الدعم القوي الذي تتلقاه تركيا من سكان المناطق التي تدخلها؛ نجد أنها وعلى العكس من إسرائيل يمكنها البقاء والتمدد في تلك الأراضي. كما أن الحلفاء المحليين لتركيا في حربها ضد إيران هم السوريون الذين شهدوا حربا شرسة مع النظام المدعوم من قبل إيران في السنوات العشر الماضية. ويعتمل في قلوبهم حقد كبير على إيران بسبب دعمها للنظام، فمنذ العام 2011 وقفت إيران إلى جانب النظام السوري في حربه ضد شعبه وارتكبت بحق هذا الشعب أفظع الجرائم.
تركيا تدرك أن المستقبل يحمل توترا أكبر في العلاقات مع إيران، إضافة إلى احتمالية بقائها بمفردها في مواجهة إيران، دفعها ذلك إلى تطبيع علاقاتها مع كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة
وكما هو الأمر مع دول الخليج وإيران تتوقع تركيا أن تبدي إيران عدائية أكثر في قابل الأيام، حيث تشكل حماية إيران لحزب العمال الكردستاني وكذلك للميليشيات الشيعية في إقليم جبل سنجار في العراق من جهة ونجاح تركيا في الجمع بين العرب السنة في تحالف مشترك وخطة موحدة مع الأكراد مؤشرا واضحا على أن كل من تركيا وإيران يقفان على طرفي نقيض في تطورات المشهد السياسي في بغداد.
ولأن تركيا تدرك أن المستقبل يحمل توترا أكبر في العلاقات مع إيران، إضافة إلى احتمالية بقائها بمفردها في مواجهة إيران، دفعها ذلك إلى تطبيع علاقاتها مع كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ويعتبر هذا التطبيع الذي قامت به تركيا حجر أساس لتحالف لم يتم تسميته بعد يجمع كل من العرب والأتراك وإسرائيل ضد العدو الإيراني المشترك.
ولا يفوت تركيا في هذا الصدد ما تشهده من تعزيز العلاقات والتحالفات بين كل من إيران وحزب العمال الكردستاني الذين تربطهما علاقات قوية أصلا، إذ ليس من قبيل الصدفة أن تقدم إيران الدعم والحماية لحزب العمال الكردستاني في كل من سوريا والعراق. على أن شبكتي التحالف اللتين أنشأتهما تركيا مع حلفاء مختلفين لمواجهة أعدائها تعتبران شبكتين منفصلتين مستقلتين كليا عن بعضيهما، وتشكل تركيا العامل المشترك الوحيد فيهما. وفي حال أريد تمكين هاتين الشبكتين لتحقيق انتصارات ضد كل من إيران وحزب العمال الكردستاني فيجب أن يتم العمل على جمعهما في تحالف قوي واحد.