عقب ظهور نتائج الانتخابات في تركيا، جلست مع صديقين سوريين في مقهى سوري بمنطقة باشاك شهير في إسطنبول، كانت صدمة النادل بادية عليه عندما رأى تركياً في المقهى ولهذا عبر عن امتنانه لزيارتي. وبعد انصرافه، تحدثت مع صديقي عن كم الأسى في ردة فعل النادل، وعندها سألني صديقاي سؤالاً مهماً وهو متى سيقوم الأتراك بإجراء مناهض للعنصرية؟ لأن الأمور خرجت عن السيطرة، فقلت لهما: "أتفهم سخطكما، لكن لا تخافا، لأن الأتراك سيقفون ضد العنصريين في تركيا، وكل ما كانوا ينتظرونه هو نتائج الانتخابات، والآن ستقف أغلب الأصوات ضد العنصرية شيئاً فشيئاً".
وكما سبق وقلت لصديقيّ السوريين، يقف الأتراك اليوم وقفة واضحة ضد العنصرية، إلا أن كثيرين قد ينتقدون هذه الوقفة على تأخرها الشديد، وعلى الأضرار غير القابلة للجبر التي خلفتها نظرة المجتمع التركي للاجئين السوريين وللأجانب عموماً، بيد أن ظهور ردة فعل في وقت أبكر من هذا لم تكن ممكنة. ثم إن أقوى الأصوات المناهضة للعنصرية تؤيد الحزب الحاكم في تركيا، وهذا الحزب كان يعلم تمام العلم عند ظهور أزمة اقتصادية في البلد بأنه لن يتجرأ على المخاطرة بخسارة الانتخابات، إذ في حال خسارته في الانتخابات، سيصبح أوميت أوزداغ وزيراً للداخلية في تركيا، أما كمال كليتشدار أوغلو فسيغدو رئيساً للبلد، وهذا التحالف الآثم لابد أن يفتح أبواب العنصرية على مصراعيها لدرجة لا يمكن لأحد تخيلها، ولهذا، فإن التزام الصمت تجاه العنصرية قبل ظهور نتائج الانتخابات كان الخيار الأفضل بين خيارين اثنين أحلاهما مرّ.
بعد الانتخابات، خضعت الحكومة التركية وبيروقراطيتها لتغيرات مهمة، فقد استبدلت الكوادر، مع تبني منهجية جدية، وعاد الاقتصاد ليبنى على السياسات التقليدية، وعمد وزير الداخلية الجديد لتغيير بعض الكوادر من فريق سلفه سليمان صويلو، وبدأ بعمل مناهض للعصابات في تركيا. أي أن هذه الفترة من التغييرات الشخصية تستغرق بعض الوقت، وبمجرد أن تنتهي هذه المرحلة، سنشهد موقفاً أشد قوة ضد العنصرية.
أخذ المحللون الأتراك يظهرون الواحد بعد الآخر ليعبروا عن رفضهم للعنصرية علناً ومن خلف الكواليس، وحذر خبراء أتراك من مغبة عدم القيام بإجراء مضاد للعنصرية، لأن ذلك من شأنه أن يضر بتركيا إلى أبعد الحدود
خلال المراحل الأولى، استعان المثقفون والخبراء الأتراك من أمثالي بحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وبالفضاء العام لتحذير الناس من العنصرية، إذ كتب مدير أهم مركز أبحاث في تركيا، ألا وهو مركز سيتا (SETA) مقالة موسعة في صحيفة صباح التركية حول مخاطر العنصرية. كما نشط رئيس ثاني أهم مركز أبحاث في تركيا، أي مركز أورسام (ORSAM) على وسائل التواصل الاجتماعي كثيراً، وظهر بشكل كبير في البرامج التلفزيونية ليدين العنصرية ويشجبها. ثم أخذ المحللون الأتراك يظهرون الواحد بعد الآخر ليعبروا عن رفضهم للعنصرية علناً ومن خلف الكواليس، وحذر خبراء أتراك من مغبة عدم القيام بإجراء مضاد للعنصرية، لأن ذلك من شأنه أن يضر بتركيا إلى أبعد الحدود.
في الوقت الذي اتخذ فيه قادة الرأي العام التركي موقفاً مناهضاً للعنصرية، بذلت الجماعات الدينية التركية جهوداً في هذا المجال، وكذلك فعلت المؤسسة الدينية التابعة للدولة التركية، أي الأوقاف (Diyanet)، إذ في عموم الجوامع بتركيا، كرست خطبة صلاة الجمعة للوقوف ضد العنصرية، إذ حذر الأئمة في مختلف أنحاء تركيا من العنصرية، وأعلنوا بأن العنصرية ليست من الإسلام في شيء، كما أنها لا تعبر عن قيم المجتمع التركي. وأكد هؤلاء الأئمة في خطبتهم بأن تركيا رحبت وسترحب بكل من يحتاجها من الناس، كما حذروا من أي إهانة أو تحقير دافعه عنصري واعتبروا ذلك ذنباً بحسب الشريعة الإسلامية، وبذلك تحولت خطبة الجمعة إلى إشارة دفعت معظم الجماعات الدينية في تركيا للبدء بالحديث عن العنصرية.
أما الناحية الثالثة فتتصل بالإعلام التركي، إذ بدأ الإعلام الموالي للحكومة بالحديث فجأة عن العنصرية والعنصريين، وبخلاف ما يجري في الدول الأوروبية حيث تسمى الشخصيات العنصرية باليمين المتطرف، اتخذ الإعلام التركي موقفاً أشد قوة عندما أطلق على تلك الشخصيات بكل صراحة صفة عنصريين، كما شجب الإعلام التركي كل ما يمارسه العنصريون، وحذر الأتراك من عواقب تصديقهم لأنهم ليسوا إلا عملاء للأجنبي، وذكر بأن العنصريين في تركيا يعملون لدى مؤسسات أجنبية هدفها تخريب علاقات تركيا مع الشعوب العربية. بعد ذلك شدد الإعلام التركي على أن جماعة فتح الله غولن وكذلك التنظيمات الإرهابية التابعة لحزب العمال الكردستاني هي من أطلق في البداية بعض المحتوى العنصري. ونتيجة لكل ذلك، أعلن الإعلام التركي بأنه لا مكان للعنصريين في تركيا، وبأن أفكارهم وأكاذيبهم ما هي إلا أدوات خارجية هدفها إضعاف تركيا. أما من جهة وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أنشئت حسابات جديدة كثيرة هدفها سحب البساط من تحت أي محتوى عنصري، إذ في الوقت الذي ركز البعض منها على إظهار كذب هذا المحتوى وافتراءاته، أخذ البعض الآخر يهاجم وبشكل مباشر السياسيين العنصريين من أمثال أوميت أوزداغ.
وأخيراً، تتبدى الناحية الرابعة من خلال الاقتصاد، إذ استعان قطاع السياحة والصناعة في تركيا برأسماله ورصيده ونفوذه السياسي للتشجيع على مناهضة العنصرية في تركيا، إذ يخشى أرباب كلا القطاعين، وبالأخص قطاع السياحة، من أن تضر العنصرية بعوائدهما، كما أعلنت الجهات المصدرة في تركيا بأن صادراتها إلى الدول العربية أصبحت مهددة بسبب العنصرية المنتشرة في تركيا.
أدت تلك التطورات التي ظهرت في أربعة قطاعات عامة، أي على المستوى الأكاديمي والديني والإعلامي والاقتصادي، إلى اتخاذ موقف مناهض للعنصرية في تركيا، إذ إلى جانب محاربة العامة للعنصرية، أعطى الرئيس التركي أردوغان إشارة إلى رفع دعوى قضائية ضد صانعي المحتوى العنصري، فطوال السنين الماضية، استعان صانعو المحتوى العنصري بحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي للتحريض على الكراهية ضد الأجانب والعرب على وجه الخصوص. ولكن عقب تصريح أدلى به الرئيس أردوغان، أعلن وزير العدل التركي بأن النيابة العامة في تركيا تقوم بتجهيز دعاوى قضائية ضد العنصريين في تركيا. واعتباراً من العشرين من أيلول الجاري، ألقت الشرطة التركية القبض على عدد من صانعي المحتوى الأتراك، لتكون تلك الحملة التي شنتها الشرطة التركية الأولى من نوعها عقب رفع دعاوى قضائية ضد العنصريين في تركيا.
ينبغي على الجالية السورية في تركيا أن تشارك الشعب التركي وتنخرط معه بصورة أكثر مباشرة، إذ يجب على الشعب السوري أن يظهر قيمته للبيروقراطيين الأتراك بما أن ذلك يعتبر رصيداً مهماً يعمل على مد جسور بين تركيا والعالم العربي
صحيح محاربة العنصرية في تركيا تأخرت، إلا أنها بدأت لتوها، إذن، ما الذي بوسع الجالية السورية أن تقدمه لتدعم الأصوات المناهضة للعنصرية؟
الكثير الكثير..
ينبغي على الجالية السورية في تركيا أن تشارك الشعب التركي وتنخرط معه بصورة أكثر مباشرة، إذ يجب على الشعب السوري أن يظهر قيمته للبيروقراطيين الأتراك بما أن ذلك يعتبر رصيداً مهماً يعمل على مد جسور بين تركيا والعالم العربي، وخير مثال على ذلك صاحب المطعم السوري الذي تحدث باللغة العربية على خلفية الاعتداء على سائح كويتي في طرابزون، بيد أن البيروقراطيين الأتراك لا يستوعبون ذلك لسوء الحظ. بوسع السوريين أيضاً أن يؤكدوا بأنهم يريدون من القوة الناعمة الأوروبية في تركيا أن تشجع المواقف المناهضة للعنصرية، إلا أن المعارضة التركية لم تقم حتى الآن بأي إجراء ضد العنصرية للأسف، لكننا نعلم جميعاً بأن القوة الناعمة الأوروبية في تركيا بوسعها أن تغير ذلك، إذ مثلاً، يمكن للتمويل الذي يذهب لدعم مجتمع الميم وحقوقه في تركيا أن يُخصص لدعم صورة اللاجئين السوريين في تركيا، بما أن هذا يصب في مصلحة الاتحاد الأوروبي أيضاً.
ولكن لابد من التحذير هنا من أن الوضع في إسطنبول سيحتدم قبيل الانتخابات المحلية المقبلة، ولهذا لن تؤثر محاربة العنصرية بشكل مباشر على الوضع الذي لم يعد أحد يطيقه في إسطنبول، لذا فإن أفضل شيء بوسع السوريين في إسطنبول تقديمه هو ألا يقيموا فيها بشكل غير قانوني وأن ينتقلوا إلى مدن تركية أخرى إن كان بوسعهم ذلك.