كنت... كلما رأيت مشهداً وطنياً في الدراما العربية، أو الغربية على حد سواء تصيبني القشعريرة وتوشك دمعتي على الخروج.
نحن الجيل الذي لم يشهد أي حراك وطني لا تحرري، ولا لأجل قضية، تدمع عيناني عندما أسمع غناء الشيخ إمام "قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك "
وابتلع دمعي عند قراءة مسيرة جميلة بوحيرد، وأشهق طويلاً على مشاهد الانتفاضة الفلسطينية، وأحسد أصدقائي الفلسطينيات والفلسطينيين بوجود قضية يعملون لأجلها وتشغل وجدانهم.
حين عرض علي صديقي العزيز بسام أن أنتسب إلى لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا، ملأت استمارة الانتساب بسرعة البرق وعدت إلى منزلي رقصاً لا مشياً، وقتها شعرت بأنني وجدت معنى للعمل الجماعي بدل العمل الفردي الذي مهما تعبت فيه لن يؤثر بالقدر الذي يؤسسه العمل الجماعي المنظم ..
انتسب للجان وأعطيتها كل طاقتي من وقت وعمل ونشاط وتواصل وكان الأستاذ أكثم نعيسة رئيس اللجان مقيماً في اللاذقية ونحن نعمل في دمشق - المركز-
بوقتها كان العمل في حقل الدفاع عن حقوق الإنسان عملاً يدخل في صلب السياسية، فحقوق الإنسان خط أحمر عند حكومة القمع، لذلك أصبحنا وصُنفنا كمعارضة سياسية مناوئة لحكم البعث، وفي ذلك الوقت كان عملنا نضالاً بالمعنى الحرفي للكلمة، نضالاً أعطى حياتنا بُعداً آخر وأرواحنا طريقاً جديداً للحياة.
في آذار 2004 كنا وجهاً لوجه مع أول إحساس جدي بالخطر، غزتنا جميعاً قشعريرة تشبه تلك التي تصيبني عندما أشاهد وثائقيات المظاهرات ضد المستعمر وأغاني سيد درويش والشيخ إمام... خوف وحماس وأمل كبير بالتغيير.
كان ذلك في ذكرى ثورة 8 آذار 1963 المشؤومة وإعلان حالة الطوارئ في البلاد.
لا يخفى على أحد هيئة رجال الأمن عندنا، منهم من كان مدنياً، وأكثريتهم لحفظ النظام، خوذ ضخمة وعصي جاهزة للضرب
أمام البرلمان السوري (مجلس الشعب) نفذنا الاعتصام الصامت الأول في تاريخ سوريا ما بعد البعث، كان أول تظاهرة سلمية في سوريا رافعين شعاراً وحيدا ً "لا لقانون الطوارئ".
نحن، أعضاء لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا، أمسكنا بأيدي بعضنا البعض، ونزلنا إلى الشارع، لنقطع الطريق، لدقيقة واحدة ثم عدنا إلى الرصيف المقابل وبدأنا نفرد لافتاتنا بصمتٍ خشوع، أمام 41 عاما من قانون لم يعد أي مبرر لوجوده، آنذاك.
لا يخفى على أحد هيئة رجال الأمن عندنا، منهم من كان مدنياً، وأكثريتهم لحفظ النظام، خوذ ضخمة وعصي جاهزة للضرب.
اقترب أحد الضباط صارخا في وجه زميلنا أكثم نعيسة رحمه الله - توفاه الله مؤخراً- رئيس اللجان: "المعتصمون يرفعوا أيديهم ومن لا علاقة له يمشي ".
رفع أكثم يديه الاثنتين عالياً وصرخ بأعلى صوته: "شباب اللجان أرفعوا أيديكم .....على الحبس".
في هذه اللحظة اندفع رجال حفظ النظام دفعة واحدة، منهم من اهتم بتمزيق اللافتات قبل أن يقرأها أحد، آخرون ضربوا زملاء لنا حاولوا منعهم من ذلك، والفئة الأكبر تبعتنا لتعتقلنا واحداً تلو الآخر، كان أولنا الزميل أكثم...
عندما أخذوا أكثم احتد الجميع وأخذنا نقترب من رجال الأمن بالرغم من النصائح بأن لا نتدخل وإلا أخذونا معه، والتي وجهها لنا بعض زملائنا الذين أسرعوا خارجين من المكان، لكننا لم ننتصح، وبقينا قريبين نراقبهم ما الذي سيفعلونه وما النتيجة التي ستكون قريبة .
بعض زملائي أبعدوني عنوة أنا وزميلتان لي، عندما أدركوا أن ضربنا أمر غير مستبعد، لكني لم أبتعد بل مشيت باتجاه الآخرين خطوتين لا أكثر، أحسست بأحدهم خلفي، بقيت أمشي ببطء غير مبالية إلى أن أحسست بيده تهوي على كتفي مطالباً بالأوراق التي كانت بيدي، كان باللباس المدني، لم أعطه الأوراق وقلت له إنه لا علاقة له بأوراقي ولا علاقة له باسمي ولا بعملي، وزميلتي تشدني من ثيابي وتترجى بي أن أكلمه بلطف لنمشي بسرعة، إلى أن تبدل الموقف وقرر الرجل أن يستخدم صلاحياته، فأخذ الأوراق عنوة من يدي، ويبدو أنه عرفها فوراً فهي بياناتنا وعريضتنا التي نقف من أجلها اليوم، والحق يقال إنني لم أستطع إلا أن أعطيه اسمي وهويتي بعد أن أكد لي بالدليل القاطع أن لا شيء يردعه من ضربي وسط الشارع دون أية اعتبارات تذكر.
سحبني مع البنتين إلى سيارة النجدة الحمراء (سستيشن حمرا) التي أظنها استوردت لنجدة المواطنين لا اعتقالهم، ومعي البنتان، وهو يحرسنا مع اثنين من عناصر حفظ النظام حتى وصلنا إلى السيارة التي يقف أمامها من هو على ما يبدو رئيسه قال له :أحضرتها سيدي، قال: أنت فلانه، قلت: نعم، قال أجلسهم في السيارة... قلت له: الفتاتان لا علاقة لهما... رد من أحضرني: سيدي كانتا معها ونزلتا معها من سيارة الأجرة ذاتها.
أدركت أن الأمر لم يكن عشوائيا أبداً، الجماعة يعلمون ويعون ما يفعلونه تماماً.
في السيارة أحسست بهدوء غريب كان قد سيطر على الشارع، الناس وقفوا مشدوهين ينظرون إلى هذه التوقيفات الجماعية، بعضهم لم يسمع حتى الآن لا بالثورة ولا بقانون الطوارئ ولا بأي شيء آخر، وبعضهم دفعه الفضول للسؤال: "شو في؟؟؟"
وآخرون وقفوا صامتين مدركين بحدسهم أن شيئاً غير اعتيادي حدث اليوم.
ما أضحكني كان جواب أحد عناصر الأمن لامرأة عجوز عندما سألته لماذا يقتادني مع البنتين والتي كانت لهجتها مليئة باللهفة والخوف على بنات بعمر أحفادها قالت :
" خطي ولك ابني ...شو عاملين ."
لم ينظر إليها بل ظل مُسمِرا نظراته علينا وأجابها بجفاف: "حرامية خالتي ."
فمشت العجوز بطريقها تتمتم بصوت مسموع: "الله يلعن الشيطان، صبايا مثل الوردة ليش يسرقوا.؟؟؟!!!!"""
لم يكذب أبداً كنا نسرق الاستقرار الذي يعيشه وسواه أو الذي يعتقد أنه يعيشه، نحاول أن نسرق حقنا في أن نحيا بإنسانية في وطن نحبه، نعشق أبناءه، ونحيا ونموت من أجله.
بعد سبع سنوات ستعم التظاهرات البلاد، وسيتغير المشهد كلياً، سيكتسح الموت الشوارع، والبلدات، وستصبح سيارات النجدة (الستيشن الحمرا) أدوات اعتقال وقتل وترهيب، لا علاقة لها بنجدة أحد، سوى نجدة أسيادها.
ثمانية عشر عاماً مضت على تلك الحادثة وما يزال شعور المرار يملأ فمي كلما تذكرتها.
انتهت مرحلة النضال، مرحلة الحلم بوطن نصنعه كما نحب، وبات المرار طعماً يومياً يملأ أفواهنا.